والجواب عنه أن نقول لا جواب عنه إلا أن يقال إنه سبحانه وتعالى منعه عن الطلب تشديداً للمحنة عليه وتغليظاً للأمر عليه وأيضاً لعله عرف بقرائن الأحوال أن أولاده أقوياء وأنهم لا يمكنونه من الطلب والتفحص وأنه لو بالغ في البحث فربما أقدموا على إيذائه وقتله وأيضاً لعله عليه السلام علم أن الله تعالى يصون يوسف عن البلاء والمحنة وأن أمره سيعظم بالآخرة ثم لم يرد هتك أستار سرائر أولاده وما رضي بإلقائهم في ألسنة الناس وذلك لأن أحد الولدين إذا ظلم الآخر وقع الأب في العذاب الشديد لأنه إن لم ينتقم يحترق قلبه على الولد المظلوم وإن انتقم فإنه يحترق قلبه على الولد الذي ينتقم منه فلما وقع يعقوب عليه السلام في هذه البلية رأى أن الأصوب الصبر والسكوت وتفويض الأمر إلى الله تعالى بالكلية
المسألة الرابعة قوله تعالى فَصَبْرٌ جَمِيلٌ يدل على أن الصبر على قسمين منه ما قد يكون جميلاً وما قد يكون غير جميل فالصبر الجميل هو أن يعرف أن منزل ذلك البلاء هو الله تعالى ثم يعلم أن الله سبحانه مالك الملك ولا اعتراض على المالك في أن يتصرف في ملك نفسه فيصير استغراق قلبه في هذا المقام مانعاً له من إظهار الشكاية
والوجه الثاني أنه يعلم أن منزل هذا البلاء حكيم لا يجهل وعالم لا يغفل عليم لا ينسى رحيم لا يطغى وإذا كان كذلك فكان كل ما صدر عنه حكمة وصواباً فعند ذلك يسكت ولا يعترض
والوجه الثالث أنه ينكشف له أن هذا البلاء من الحق فاستغراقه في شهود نور المبلى يمنعه من الاشتغال بالشكاية عن البلاء ولذلك قيل المحبة التامة لا تزداد بالوفاء ولا تنقص بالجفاء لأنها لو ازدادت بالوفاء لكان المحبوب هو النصيب والحظ وموصل النصيب لا يكون محبوباً بالذات بل بالعرض فهذا هو الصبر الجميل أما إذا كان الصبر لا لأجل الرضا بقضاء الحق سبحانه بل كان لسائر الأغراض فذلك الصبر لا يكون جميلاً والضابط في جميع الأفعال والأقوال والاعتقادات أن كل ما كان لطلب عبودية الله تعالى كان حسناً وإلا فلا وههنا يظهر صدق ما روي في الأثر ( استفت قلبك ولو أفتاك المفتون ) فليتأمل الرجل تأملاً شافياً أن الذي أتى به هل الحاصل والباعث عليه طلب العبودية أم لا فإن أهل العلم لو أفتونا بالشيء مع أنه لا يكون في نفسه كذلك لم يظهر منه نفع ألبتة ولما ذكر يعقوب قوله فَصَبْرٌ جَمِيلٌ قال وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ والمعنى أن إقدامه على الصبر لا يمكن إلا بمعونة الله تعالى لأن الدواعي النفسانية تدعوه إلى إظهار الجزع وهي قوية والدواعي الروحانية تدعوه إلى الصبر والرضا فكأنه وقعت المحاربة بين الصنفين فما لم تحصر إعانة الله تعالى لم تحصل الغلبة فقوله فَصَبْرٌ جَمِيلٌ يجري مجرى قوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ ( الفاتحة ٥ ) وقوله وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ يجري مجرى قوله وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ( الفاتحة ٥ )
وَجَاءَتْ سَيَّارَة ٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يابُشْرَى هَاذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَة ً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَة ٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَاهِدِينَ


الصفحة التالية
Icon