واعلم أن شيئاً من هذه الروايات لم يدل عليه القرآن ولم يثبت أيضاً في خبر صحيح وتفسير كتاب الله تعالى لا يتوقف على شيء من هذه الروايات فالأليق بالعاقل أن يحترز من ذكرها
المسألة الثانية قوله أَكْرِمِى مَثْوَاهُ ( يوسف ٢٣ ) أي منزله ومقامه عندك من قولك ثويت بالمكان إذا أقمت به ومصدره الثواء والمعنى اجعلي منزله عندك كريماً حسناً مرضياً بدليل قوله إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاى َّ وقال المحققون أمر العزيز امرأته بإكرام مثواه دون إكرام نفسه يدل على أنه كان ينظر إليه على سبيل الإجلال والتعظيم وهو كما يقال سلام الله على المجلس العالي ولما أمرها بإكرام مثواه علل ذلك بأن قال عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا أي يقوم بإصلاح مهماتنا أو نتخذه ولداً لأنه كان لا يولد له ولد وكان حصوراً
ثم قال تعالى وَكَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الاْرْضِ أي كما أنعمنا عليه بالسلامة من الجب مكناه بأن عطفنا عليه قلب العزيز حتى توصل بذلك إلى أن صار متمكناً من الأمر والنهي في أرض مصر
واعلم أن الكمالات الحقيقية ليست إلا القدرة والعلم وأنه سبحانه لما حاول إعلاء شأن يوسف ذكره بهذين الوصفين أما تكميله في صفة القدرة والمكنة فإليه الإشارة بقوله مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الاْرْضِ وأما تكميله في صفة العلم فإليه الإشارة بقوله وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ وقد تقدم تفسير هذه الكلمة
واعلم أنا ذكرنا أنه عليه السلام لما ألقى في الجب قال تعالى وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَاذَا ( يوسف ١٥ ) وذلك يدل ظاهراً على أنه تعالى أوحى إليه في ذلك الوقت وعندنا الإرهاص جائز فلا يبعد أن يقال إن ذلك الوحي إليه في ذلك الوقت ما كان لأجل بعثته إلى الخلق بل لأجل تقوية قلبه وإزالة الحزن عن صدره ولأجل أن يستأنس بحضور جبريل عليه السلام ثم إنه تعالى قال ههنا وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ والمراد منه إرساله إلى الخلق بتبليغ التكاليف ودعوة الخلق إلى الدين الحق ويحتمل أيضاً أن يقال إن ذلك الوحي الأول كان لأجل الرسالة والنبوة ويحمل قوله وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ على أنه تعالى أوحى إليه بزيادات ودرجات يصير بها كل يوم أعلى حالاً مما كان قبله وقال ابن مسعود أشد النار فراسة ثلاثة العزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا والمرأة لما رأت موسى فقالت إِحْدَاهُمَا ياأَبَتِ اسْتَجِرْهُ ( القصص ٢٦ ) وأبو بكر حين استخلف عمر
ثم قال تعالى وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وفيه وجهان الأول غالب على أمر نفسه لأنه فعال لما يريد لا دافع لقضائه ولا مانع عن حكمه في أرضه وسمائه والثاني والله غالب على أمر يوسف يعني أن انتظام أموره كان إلهياً وما كان بسعيه وإخوته أرادوا به كل سوء ومكروه والله أراد به الخير فكان كما أراد الله تعالى ودبر ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الأمر كله بيد الله واعلم أن من تأمل في أحوال الدنيا وعجائب أحوالها عرف وتيقن أن الأمر كله لله وأن قضاء الله غالب
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذالِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ


الصفحة التالية
Icon