بحيث نشاهد هذه الأباطيل التي لا حقيقة لها وقوله لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكّرَتْ أَبْصَارُنَا فيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ ابن كثير سُكّرَتْ بالتخفيف والباقون مشددة الكاف قال الواحدي سكرت غشيت وسددت بالسحر هذا قول أهل اللغة قالوا وأصله من السكر وهو سد الشق لئلا ينفجر الماء فكأن هذه الأبصار منعت من النظر كما يمنع السكر الماء من الجري والتشديد يوجب زيادة وتكثيراً وقال أبو عمرو بن العلاء هو مأخوذ من سكر الشراب يعني أن الأبصار حارت ووقع بها من فساد النظر مثل ما يقع بالرجل السكران من تغير العقل فإذا كان هذا معنى التخفيف فسكرت بالتشديد يراد به وقوع هذا الأمر مرة بعد أخرى وقال أبو عبيدة سُكّرَتْ أَبْصَارُنَا أي غشيت أبصارنا فوجب سكونها وبطلانها وعلى هذا القول أصله من السكون يقال سكرت الريح سكراً إذا سكنت وسكر الحر يسكر وليلة ساكرة لا ريح فيها وقال أوس جذلت على ليلة ساهرة
فليست بطلق ولا ساكره
ويقال سكرت عينه سكراً إذا تحيرت وسكنت عن النظر وعلى هذا معنى سكرت أبصارنا أي سكنت عن النظر وهذا القول اختيار الزجاج وقال أبو علي الفارسي سكرت صارت بحيث لا ينفذ نورها ولا تدرك الأشياء على حقائقها وكان معنى السكر قطع الشيء عن سننه الجاري فمن ذلك تسكير الماء وهو رده عن سننه في الجرية والسكر في الشراب هو أن ينقطع عما كان عليه من المضاء في حال الصحو فلا ينفذ رأيه على حد نفاذه في الصحو فهذه أقوال أربعة في تفسير سُكّرَتْ وهي في الحقيقة متقاربة والله أعلم
المسألة الثانية قال الجبائي من جوز قدرة السحرة على أن يأخذوا بأعين الناس حتى يروهم الشيء على خلاف ما هو عليه لم يصح إيمانه بالأنبياء والرسل وذلك لأنهم إذا جوزوا ذلك فلعل هذا الذي يرى أنه محمد بن عبد الله ليس هو ذلك الرجل وإنما هو شيطان ولعل هذه المعجزات التي نشاهدها ليس لها حقائق بل هي تكون من باب الآراء الباطلة من ذلك الساحر وإذا حصل هذا التجويز بطل الكل والله أعلم
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ
اعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهة منكري النبوة وكان قد ثبت أن القول بالنبوة مفرع على القول بالتوحيد أتبعه تعالى بدلائل التوحيد ولما كانت دلائل التوحيد منها سماوية ومنها أرضية بدأ منها بذكر الدلائل السماوية فقال وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ قال الليث البرج واحد من بروج الفلك والبروج جمع وهي اثنا عشر برجاً ونظيره قوله تعالى تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَاء بُرُوجاً ( الفرقان ٦١ )