واعلم أنه تعالى ذكر أقواماً ثلاثة وهم قوم نوح وعاد وثمود
ثم قال تعالى وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ وذكر صاحب ( الكشاف ) فيه احتمالين الأول أن يكون قوله وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جملة من مبتدأ وخبر وقعت اعتراضاً والثاني أن يقال قوله وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ معطوف على قوم نوح وعاد وثمود وقوله لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ فيه قولان
القول الأول أن يكون المراد لا يعلم كنه مقاديرهم إلا الله لأن المذكور في القرآن جملة فأما ذكر العدد والعمر والكيفية والكمية فغير حاصل
والقول الثاني أن المراد ذكر أقوام ما بلغنا أخبارهم أصلاً كذبوا رسلاً لم نعرفهم أصلاً ولا يعلمهم إلا الله والقائلون بهذا القول الثاني طعنوا في قول من يصل الأنساب إلى آدم عليه السلام كان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية يقول كذب النسابون يعني أنهم يدعون علم الأنساب وقد نفى الله علمها عن العباد وعن ابن عباس بين عدنان وبين إسماعيل ثلاثون أباً لا يعرفون ونظير هذه الآية قوله تعالى وَقُرُوناً بَيْنَ ذالِكَ كَثِيراً ( الفرقان ٣٨ ) وقوله مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ( عافر ٧٨ ) وعن النبي ( ﷺ ) أنه كان في انتسابه لا يجاوز معد بن عدنان بن أدد وقال ( تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم وتعلموا من النجوم ما تستدلون به على الطريق ) قال القاضي وعلى هذا الوجه لا يمكن القطع على مقدار السنين من لدن آدم عليه السلام إلى هذا الوقت لأنه إن أمكن ذلك لم يبعد أيضاً تحصيل العلم بالأنساب الموصولة
فإن قيل أي القولين أولى
قلنا القول الثاني عندي أقرب لأن قوله تعالى لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ نفى العلم بهم وذلك يقتضي نفي العلم بذواتهم إذ لو كانت ذواتهم معلومة وكان المجهول هو مدد أعمارهم وكيفية صفاتهم لما صح نفي العلم بذواتهم ولما كان ظاهر الآية دليلاً على نفي العلم بذواتهم لا جرم كان الأقرب هو القول الثاني ثم إنه تعالى حكى عن هؤلاء الأقوام الذين تقدم ذكرهم أنه لما جاءتهم رسلهم بالبينات والمعجزات أتوا بأمور أولها قوله فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ وفي معناه قولان الأول أن المراد باليد والفم الخارجتان المعلومتان والثاني أن المراد بهما شيء غير هاتين الجارحتين وإنما ذكرهما مجازاً وتوسعاً أما من قال بالقول الأول ففيه ثلاثة أوجه
الوجه الأول أن يكون الضمير في أَيْدِيهِمْ و أَفْوَاهِهِمْ عائداً إلى الكفار وعلى هذا ففيه احتمالات الأول أن الكفار ردوا أيديهم في أفواههم فعضوها من الغيظ والضجر من شدة نفرتهم عن رؤية الرسل واستماع كلامهم ونظيره قوله تعالى عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الاْنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ( آل عمران ١١٩ ) وهذا القول مروي عن ابن عباس وابن مسعود رحمهما الله تعالى وهو اختيار القاضي والثاني أنهم لما سمعوا كلام الأنبياء عجبوا منه وضحكوا على سبيل السخرية فعند ذلك ردوا أيديهم في أفواههم كما يفعل ذلك من غلبة الضحك فوضع يده على فيه والثالث أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم مشيرين بذلك إلى الأنبياء أن كفوا عن هذا الكلام واسكتوا عن ذكر هذا الحديث وهذا مروي عن الكلبي والرابع أنهم أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وإلى ما تكلموا به من قولهم إنا كفرنا بما أرسلتم به أي هذا هو الجواب عندنا عما ذكرتموه وليس