نرى عليه أهل الخطابة والشعر من وجود ما يوجد منهم مفرقاً حيناً فحيناً بحسب ما يظهر من الأحوال المتجددة والحاجات المختلفة فإن الشاعر لا يظهر ديوان شعره دفعة والمترسل لا يظهر ديوان رسائله وخطبه دفعة فلو أنزله الله تعالى لأَنزله على خلاف هذه العادة جملة وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءانُ جُمْلَة ً واحِدَة ً ( الفرقان ٣٢ ) والله سبحانه وتعالى ذكر ههنا ما يدل على أن القرآن معجز مع ما يزيل هذه الشبهة وتقريره أن هذا القرآن النازل على هذا التدريج إما أن يكون من جنس مقدور البشر أو لا يكون فإن كان الأول وجب إتيانهم بمثله أو بما يقرب منه على التدريج وإن كان الثاني ثبت أنه مع نزوله على التدريج معجز وقرىء ( على عبادنا ) يريد رسول الله ( ﷺ ) وأمته
المسألة الثالثة السورة هي طائفة من القرآن وواوها إن كانت أصلاً فإما أن تسمى بسور المدينة وهو حائطها لأنها طائفة من القرآن محدودة كالبلد المسور أو لأنها محتوية على فنون من العلم كاحتواء سور المدينة على ما فيها وإما أن تسمى بالسورة التي هي الرتبة لأن السورة بمنزلة المنازل والمراتب يترقى فيها القارىء وهي أيضاً في أنفسها طوال وأوساط وقصار أو لرفعة شأنها وجلالة محلها في الدين وإن جعلت واوها منقلبة عن همزة فلأنها قطعة وطائفة من القرآن كالسورة التي هي البقية من الشيء والفضلة منه فإن قيل فما فائدة تقطيع القرآن سوراً قلنا من وجوه أحدها ما لأجله بوب المصنفون كتبهم أبواباً وفصولاً وثانيها أن الجنس إذا حصل تحته أنواع كان أفراد كل نوع عن صاحبه أحسن وثالثها أن القارىء إذا ختم سورة أو باباً من الكتاب ثم أخذ في آخر كان أنشط له وأثبت على التحصيل منه لو استمر على الكتاب بطوله ومثله المسافر إذا علم أنه قطع ميلاً أو طوى فرسخاً نفس ذلك عنه ونشطه للسير ورابعها أن الحافظ إذا حفظ السورة اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة بنفسها فيجل في نفسه ذلك ويغتبط به ومن ثم كانت القراءة في الصلاة بسورة تامة أفضل
المسألة الرابعة قوله فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ يدل على القرآن أن وما هو عليه من كونه سوراً هو على حد ما أنزله الله تعالى بخلاف قول كثير من أهل الحديث إنه نظم على هذا الترتيب في أيام عثمان فلذلك صح التحدي مرة بسورة ومرة بكل القرآن
المسألة الخامسة اعلم أن التحدي بالقرآن جاء على وجوه أحدها قوله فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى ( القصص ٤٩ ) وثانيها قوله قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَاذَا الْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ( الإسراء ٨٨ ) وثالثها قوهل فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ( هود ١٣ ) ورابعها قوله فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ ونظير هذا كمن يتحدى صاحبه بتصنيفه فيقول ائتني بمثله ائتني بنصفه ائتني بربعه ائتني بمسألة منه فإن هذا هو النهاية في التحدي وإزالة العذر فإن قيل قوله فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ يتناول سورة الكوثر وسورة العصر وسورة قل يا أيها الكافرون ونحن نعلم بالضرورة أن الإتيان بمثله أو بما يقرب منه ممكن فإن قلتم إن الإتيان بأمثال هذه السور خارج عن مقدور البشر كان ذلك مكابرة والإقدام على أمثال هذه المكابرات مما يطرق التهمة إلى الدين قلنا فلهذا السبب اخترنا الطريق الثاني وقلنا إن بلغت هذه السورة في الفصاحة إلى حد الإعحاز فقد حصل المقصود وإن لم يكن الأمر كذلك كان امتناعهم عن المعارضة مع شدة دواعيهم إلى توهين أمره معجزاً فعلى هذين


الصفحة التالية
Icon