قال القاضي ما لا يجوز على الله من هذا الجنس إثباتاً فيجب أن لا يطلق على طريق النفي أيضاً عليه وإنما يقال إنه لا يوصف به فأما أن يقال لا يستحي ويطلق عليه ذلك فمحال لأنه يوهم نفي ما يجوز عليه وما ذكره الله تعالى من كتابه في قوله لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ وقوله لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ فهو بصورة النفي وليس بنفي على الحقيقة وكذلك قوله مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وكذلك قولك وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ وليس كل ما ورد في القرآن إطلاقه جائزاً أن يطلق في المخاطبة فلا يجوز أن يطلق ذلك إلا مع بيان أن ذلك محال ولقائل أن يقول لا شك في أن هذه الصفات منفية عن الله سبحانه فكان الإخبار عن انتفائها صدقاً فوجب أن يجوز بقي أن يقال إن الإخبار عن انتفائها يدل على صحتها عليه فنقول هذه الدلالة ممنوعة وذلك لأن تخصيص هذا النفي بالذكر لا يدل على ثبوت غيره بل لو قرن باللفظ ما يدل على انتفاء الصحة أيضاً كان ذلك أحسن من حيث أنه يكون مبالغة في البيان وليس إذا كان غيره أحسن أن يكون ذلك قبيحاً
المسألة الثالثة اعلم أن ضرب الأمثال من الأمور المستحسنة في العقول ويدل عليه وجوه أحدها إطباق العرب والعجم على ذلك أما العرب فذلك مشهور عندهم وقد تمثلوا بأحقر الأشياء فقالوا في التمثيل بالذرة أجمع من ذرة وأضبط من ذرة وأخفى من الذرة وفي التمثيل بالذباب أجرأ من الذباب وأخطأ من الذباب وأطيش من الذباب وأشبه من الذباب بالذباب وألح من الذباب وفي التمثيل بالقراد أسمع من قراد وأصغر من قراد وأعلق من قراد وأغم من قراد وأدب من قراد وقالوا في الجراد أطير من جرادة وأحطم من جرادة وأفسد من جرادة وأصفى من لعاب الجراد وفي الفراشة أضعف من فراشة وأطيش من فراشة وأجهل من فراشة وفي البعوضة أضعف من بعوضة وأعز من مخ البعوضة وكلفني مخ البعوضة في مثل تكليف ما لا يطاق وأما العجم فيدل عليه ( كتاب كليلة ودمنة ) وأمثاله وفي بعضها قالت البعوضة وقد وقعت على نخلة عالية وأرادت أن تطير عنها يا هذه استمسكي فإني أريد أن أطير فقالت النخلة والله ما شعرت بوقوعك فكيف أشعر بطيرانك وثانيها أنه ضرب الأمثال في إنجيل عيسى عليه السلام بالأشياء المستحقرة قال مثل ملكوت السماء كمثل رجل زرع في قريته حنطة جيدة نقية فلما نام الناس جاء عدوه فزرع الزوان بين الحنطة فلما نبت الزرع وأثمر العشب غلب عليه الزوان فقال عبيد الزراع يا سيدنا أليس حنطة جيدة نقية زرعت في قريتك قال بلى قالوا فمن أين هذا الزوان قال لعلكم إن ذهبتم أن تقلعوا الزوان فتقلعوا معه الحنطة فدعوهما يتربيان جميعاً حتى الحصاد فأمر الحصادين أن يلتقطوا الزوان من الحنطة وأن يربطوه حزماً ثم يحرقوه بالنار ويجمعوا الحنطة إلى الخزائن وأفسر لكم ذلك الرجل الذي زرع الحنطة الجيدة هو أبو البشر والقرية هي العالم والحنطة الجيدة النقية هو نحن أبناء الملكوت الذي يعملون بطاعة الله تعالى والعدو الذي زرع الزوان هو إبليس والزوان هو المعاصي التي يزرعها إبليس وأصحابه والحصادون هم الملائكة يتركون الناس حتى تدنوا آجالهم فيحصدون أهل الخير إلى ملكوت الله وأهل الشر إلى الهاوية وكما أن الزوان يلتقط ويحرق بالنار كذلك رسل الله وملائكته يلتقطون من ملكوته المتكاسلين وجميع عمال الأثم فيلقونهم في أتون الهاوية فيكون هنا لك البكاء وصريف الأسنان ويكون الأبرار هنالك في ملكوت


الصفحة التالية
Icon