أنه بعد ما كان نطقة فإن الله أحياه وصوره أحسن صورة وجعله بشراً سوياً وأكمل عقله وصيره بصيراً بأنواع المنافع والمضار وملكه الأموال والأولاد والدور والقصور ثم إنه تعالى يزيل كل ذلك عنه بأن يميته ويصيره بحيث لا يملك شيئاً ولا يبقى منه في الدنيا خبر ولا أثر ويبقى مدة طويلة في اللحود كما قال تعالى وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ ( المؤمنون ١٠٠ ) ينادي فلا يجيب ويستنطق فلا يتكلم ثم لا يزوره الأقربون بل ينساه الأهل والبنون كما قال يحيى بن معاذ الرازي فيمر أقاربي بحذاء قبري
كأن أقاربي لم يعرفوني
وقال أيضاً إلهي كأني بنفسي وقد أضجعوها في حفرتها وانصرف المشيعون عن تشييعها وبكى الغريب عليها لغربتها وناداها من شفير القبر ذو مودتها ورحمتها الأعادي عند جزعتها ولم يخف على الناظرين عجز حيلتها فما رجائي إلا أن نقول ما تقول ملائكتي انظروا إلى فريد قد نأى عنه الأقربون ووحيد قد جفاه المحبون أصبح مني قريباً وفي اللحد غريباً وكان لي في الدنيا داعياً ومجيباً ولإحساني إليه عند وصوله إلى هذا البيت راجياً فأحسن إلى هناك يا قديم الإحسان وحقق رجائي فيك يا واسع الغفران وأما أنه لا بدّ من الرجوع إلى الله فلأن سبحانه يأمر بأن ينفخ في الصور فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ( الزمر ٦٨ ) وقال يَخْرُجُونَ مِنَ الاْجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ( المعارج ٤٣ ) ثم يعرضون على الله كما قال وَعُرِضُواْ عَلَى رَبّكَ صَفَّا ( الكهف ٤٨ ) فيقومون خاشعين خاضعين كما قال وَخَشَعَتِ الاصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ ( طه ١٠٨ ) وقال بعضهم إلهنا إذا قمنا من ثرى الأجداث مغبرة رؤوسنا ومن شدة الخوف شاحبة وجوهنا ومن هول القيامة مطرقة رؤوسنا وجائعة لطول القيامة بطوننا وبادية لأهل الموقف سوآتنا وموقرة من ثقل الأوزار ظهورنا وبقينا متحيرين في أمورنا نادمين على ذنوبنا فلا تضعف المصائب بإعراضك عنا ووسع رحمتك وغفرانك لنا يا عظيم الرحمة يا واسع المغفرة
هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأرض جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيمٌ
اعلم أن هذا هو النعمة الثانية التي عمت المكلفين بأسرهم وما أحسن ما رعى الله سبحانه وتعالى هذا الترتيب فإن الانتفاع بالأرض والسماء إنما يكون بعد حصول الحياة فلهذا ذكر الله أمر الحياة أولاً ثم أتبعه بذكر السماء والأرض أما قوله خُلِقَ فقد مر تفسيره في قوله اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى ْ خَلَقَكُمْ وأما قوله لَكُمْ فهو يدل على أن المذكور بعد قوله خلق لأجل انتفاعنا في الدين والدنيا أما في الدنيا فليصلح أبداننا ولنتقوى به على الطاعات وأما في الدين فللاستدلال بهذه الأشياء والاعتبار بها وجمع بقوله


الصفحة التالية
Icon