فأعلم من بواطنهم أسراراً خفية وحكماً بالغة تقتضي خلقهم وإيجادهم أما الوجه الثاني وهو أنهم ذكروا بني آدم بما لا ينبغي وهو الغيبة فالجواب أن محل الإشكال في خلق بني آدم إقدامهم على الفساد والقتل ومن أراد إيراد السؤال وجب أن يتعرض لمحل الإشكال لا لغيره فلهذا السبب ذكروا من بني آدم هاتين الصفتين وما ذكروا منهم عبادتهم وتوحيدهم لأن ذلك ليس محل الإشكال أما الوجه الثالث وهو أنهم مدحوا أنفسهم وذلك يوجب العجب وتزكية النفس فالجواب أن مدح النفس غير ممنوع منه مطلقاً لقولاه وَأَمَّا بِنِعْمَة ِ رَبّكَ فَحَدّثْ وأيضاً فيحتمل أن يكون قولهم وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ ليس المراد مدح النفس بل المراد بيان أن هذا السؤال ما أوردناه لنقدح به في حكمتك يا رب فإنا نسبح بحمدك ونعترف لك بالإلهية والحكمة فكأن الغرض من ذلك بيان أنهم ما أوردوا السؤال للطعن في الحكمة والإلهية بل لطلب وجه الحكمة على سبيل التفصيل أما الوجه الرابع وهو أن قولهم لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا يشبه الاعتذار فلا بدّ من سبق الذنب قلنا نحن نسلم أن الأولى للملائكة أن لا يوردوا ذلك السؤال فلما تركوا هذا الأولى كان ذلك الاعتذار اعتذاراً من ترك الأولى فإن قيل أليس أنه تعالى قال لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ( الأنبياء ٢٧ ) فهذا السؤال وجب أن يكون بإذن الله تعالى وإذا كانوا مأذونين في هذا السؤال فكيف اعتذروا عنه قلنا العام قد يتطرق إليه التخصيص أما الوجه الخامس وهو أن إخبار الملائكة عن الفساد وسفك الدماء إما أن يكون حصل عن الوحي أو قالوه استنباطاً وظناً قلنا اختلف العلماء فيه فمنهم من قال إنهم ذكروا ذلك ظناً ثم ذكروا فيه وجهين الأول وهو مروي عن ابن عباس والكلبي أنهم قاسوه على حال الجن الذين كانوا قبل آدم عليه السلام في الأرض الثاني أنهم عرفوا خلقته وعرفوا أنه مركب من هذه الأخلاط الأربعة فلا بّد وأن تتركب فيه الشهوة والغضب فيتولد الفساد عن الشهوة وسفك الدماء عن الغضب ومنهم من قال إنهم قالوا ذلك على اليقين وهو مروي عن ابن مسعود وناس من الصحابة ثم ذكروا فيه وجوهاً أحدها أنه تعالى لما قال للملائكة إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً قالوا ربنا وما يكون ذلك الخليفة قال يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضاً فعند ذلك قالوا ربنا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء وثانيها أنه تعالى كان قد أعلم الملائكة أنه إذا كان في الأرض خلق عظيم أفسدوا فيها وسفكوا الدماء وثالثها قال ابن زيد لما خلق الله تعالى النار خافت الملائكة خوفاً شديداً فقالوا ربنا لمن خلقت هذه النار قال لمن عصاني من خلقي ولم يكن لله يومئذٍ خلق إلا الملائكة ولم يكن في الأرض خلق البتة فلما قال إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً عرفوا أن المعصية تظهر منهم ورابعها لما كتب القلم في اللوح ما هو كائن إلى يوم القيامة فلعلهم طالعوا اللوح فعرفوا ذلك وخامسها إذا كان معنى الخليفة من يكون نائباً لله تعالى في الحكم والقضاء والاحتجاج إلى الحاكم والقاضي إنما يكون عند التنازع والتظالم كان الأخبار عن وجود الخليفة إخباراً عن وقوع الفساد والشر بطريق


الصفحة التالية
Icon