يقال له تعودت المقام في الجنة فأدخل الجنة ومن اكتفى بالجهل يقال له تعودت النار فأدخل النار والذي يدل على أن العلم جنة والجهل نار أن كمال اللذة في إدراك المحبوب وكمال الألم في البعد عن المحبوب والجراحة إنما تؤلم لأنها تبعد جزءاً من البدن عن جزء محبوب من تلك الأجزاء وهو الاجتماع فلما اقتضت الجراحة إزالة ذلك الاجتماع فقد اقتضت إزالة المحبوب وبعده فلا جرم كان ذلك مؤلماً والإحراق بالنار إنما كان أشد إيلاماً من الجرح لأن الجرح لا يفيد إلا تبعيد جزء معين عن جزء معين أما النار فإنها تغوص في جميع الأجزا فاقتضت تبعيد جميع الأجزاء بعضها عن بعض فلما كانت التفريقات في الإحراق أشد كان الألم هناك أصعب أما اللذة فهي عبارة عن إدراك المحبوب فلذة الأكل عبارة عن إدراك تلك الطعوم لموافقة للبدن وكذلك لذة النظر إنما تحصل لأن القوة الباصرة مشتاقة إلى إدراك المرئيات فلا جرم كان ذلك الإدراك لذة لها فقد ظهر بهذا أن اللذة عبارة عن إدراك المحبوب والألم عبارة عن إدراك المكروه وإذا عرفت هذا فنقول كلما كان الإدراك أغوص وأشد والمدرك أشرف وأكمل والمدرك أنقى وأبقى وجب أن تكون اللذة أشرف وأكمل ولا شك أن محل العلم هو الروح وهو أشرف من البدن ولا شك أن الإدراك العقلي أغوص وأشرف على ما سيجيء بيانه في تفسير قوله اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( النور ٣٥ ) وأما المعلوم فلا شك أنه أشرف لأنه هو الله رب العالمين وجميع مخلوقاته من الملائكة والأفلاك والعناصر والجمادات والنبات والحيوانات وجميع أحكامه وأوامره وتكاليفه وأيُّ معلوم أشرف من ذلك فثبت أنه لا كمال ولا لذة فوق كمال العلم ولذاته ولا شقاوة ولا نقصان فوق شقاوة الجهل ونقصانه ومما يدل على ما قلناه أنه إذا سئل الواحد منا عن مسألة علمية فإن علمها وقدر على الجواب والصواب فيها فرح بذلك وابتهج به وأن جهلها نكس رأسه حياء من ذلك وذلك يدل على أن اللذة الحاصلة بالعلم أكمل اللذات والشقاء الحاصل بالجهل أكمل أنواع الشقاء واعلم أن ههنا وجوهاً أخر من النصوص تدل على فضيلة العلم نسينا إيرادها قبل ذلك فلا بأس أن نذكرها ههنا الوجه الأول أن أول ما نزل قوله تعالى اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِى خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاْكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ( العلق ١ ٥ ) فقيل فيه إنه لا بدّ من رعاية التناسب بين الآيات فأي مناسبة بين قوله خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ وبين قوله اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاْكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ بِالْقَلَمِ فأجيب عنه بأن وجه المناسبة أنه تعالى ذكر أول حال الإنسان وهو كونه علقة مع أنها أخس الأشياء وآخر حاله وهي صيرورته عالماً وهو أجل المراتب كأنه تعالى قال كنت أنت في أول حالك في تلك الدرجة التي هي غاية الخساسة فصرت في آخر حالك في هذه الدرجة التي هي الغاية في الشرف وهذا إنما يتم لو كان العلم أشرف المراتب إذ لو كان غيره أشرف لكان ذكر ذلك الشيء في هذا المقام أولى الثاني أنه قال اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاْكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ بِالْقَلَمِ وقد ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون الوصف علة فهذا يدل على أنه سبحانه وتعالى إنما استحق الوصف بالأكرمية لأنه أعطى العلم فلولا أن العلم أشرف من غيره وإلا لما كانت إفادته أشرف من إفادة غيره


الصفحة التالية
Icon