من المرض والفقر ثم إنهم مع استكمال أسباب التنعم لهم أبدا مذ خلقوا مشتغلون بالعبادة خاشعون وجلون مشفقون كأنهم مسجونون لا يلتفتون إلى نعيم الجنان واللذات بل هم مقبلون على الطاعات الشاقة موصوفون بالخوف الشديد ولافزع العظيم وكأنه لا يقدر أحد من بني آدم أن يبقى كذلك يوما وادحا فضلا عن تلك الأعصار المتطاولة ويؤكده قصة آدم عليه السلام فإنه أطلق له جميع مواضع الجنة بقوله وكلا منها رغدا حيث شئتما البقرة ٣٥ ثم منع من شجرة واحدة فلم يملك نفسه حتى وقع في الشر وذلك يدل على أن طاعتهم أشق من طاعات البشر
وثانيها أن انتقال المكلف من نوع عبادة إلى نوع آخر كالانتقال من بستان إلى بستان أما الإقامة على نوع واحد فإنها تورث المشقة والملالة ولهذا السبب جعلت التصانيف مقسومة بالأبواب والفصول وجعل كتاب الله مقسوما بالسور والأحزاب والأعشار والأخماس ثم إن الملائكة كل واحد منهم مواظب على عمل واحد لا يعدل عنه إلى غيره على ما قال سبحانه يسبحون الليل والنهار لا يفترون الأنبياء ٢٠ وقال وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون الصافات ١٦٥ ١٦٦ وإذا كان كذلك كانت عبادتهم في نهاية المشقة إذا ثبت وجب أن تكون عباداتهم أفضل عليه الصلاة والسلام ﴿ أفضل الأعمال أحمزها ﴾ أي أشقها وقوله لعائشة رضي الله عنها ﴿ إنما أجرك على قدر نصبك ﴾ والقياس أيضا يقتضي ذلك فإن العبد كلما كان تحمله المشاق لأجل رضا مولاه أكثر كان أحق بالتعظيم والتقديم
والقائل أن يقول على الوجهين هب أن مشقتهم أكثر فلم قلتم يجب أن يكون ثوابهم أكبر وذلك لأنا نرى بعض الصوفية في زماننا هذا يتحملون في طريق المجاهدة من المشاق والمتاعب ما يقطع بأن النبي ( ﷺ ) ما كان يتحمل بعض ذلك ثم إنا نقطع بأن النبي ( ﷺ ) أفضل منه ومن أمثاله بل يحكى عن عباد الهند وزهادهم ورهبانهم أنهم يتحملون من المتاعب في التواضع لله تعالى ما لم يحك مثله عن أحد من الأنبياء والأولياء مع أنا نقطع بكفرهم فعلمنا أن كثرة المشقة في العبادة لا تقتضي زيادة الثواب وتحقيقه هو أن كثرة الثواب لا تحصل إلا بناء على الدواعي والقصود فلعل الفعل الواحد يأتي به مكلفان على السواء فيما يتعلق بالأفعال الظاهرة ويستحق أحدهما به ثوابا عظيما والآخر لا يستحق به ثوالا قليلا لما أن إخلاص أحدهما أشد وأكثر من إخلاص الثاني فإذن كثرة العبادات ومشقتها لا تقتضي التفاوت في الفضل ثم نقول لا نسلم أن عبادات الملائكة أشق
أما قوله في الوجه الأول السموات كالبساتين النزهة قلنا مسلم ولكن لم قلتم بأن الاتيان بالعبادة في المواضع الطيبة أشق من الاتيان بها في المواضع الرديئة أكثر ما في الباب أن يقال إنه قد يهيأ له أسباب التنعم فامتناعه عنها مع تهيتها له أشق ولكنه معارض بما أن أسباب البلاء مجتمهة على البشر ثم إنهم مع اجتماعها عليهم يرضون بقضاء الله ولا تغيرهم تلك المحن والآفات عن الخشوع له والمواظبة على عبوديته وذلك أدخل في العبودية وذلك أن الخدم والعبيد تطيب قلوبهم بالخدمة حال ما يجدون من النعم والرفاهية ولا يصبر أحد منهم حال المشقة على الخدمة إلا من كان في نهاية الإخلاص فما ذكروه بالعكس أولى أما قوله والمواظبة على نوع واحد من العبادة شاق قلنا هذا معارض بوجه آخر وهو أنهم لما


الصفحة التالية
Icon