المسألة الثانية المتقي في اللغة اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقي والوقاية فرط الصيانة إذا عرفت هذا فنقول إن الله تعالى ذكر المتقي ههنا في معرض المدح ومن يكون كذلك أولى بأن يكون متقياً في أمور الدنيا بل بأن يكون متقياً فيما يتصل بالدين وذلك بأن يكون آتياً بالعبادات محترزاً عن المحظورات واختلفوا في أنه هل يدخل اجتناب الصغائر في التقوى فقال بعضهم يدخل كما يدخل الصغائر في الوعيد وقال آخرون لا يدخل ولا نزاع في وجوب التوبة عن الكل إنما النزاع في أنه إذا لم يتوق الصغائر هل يستحق هذا الاسم فروي عنه عليه السلام أنه قال ( لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به البأس ) وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم الذين يحذرون من الله العقوبة في ترك ما يميل الهوى إليه ويرجون رحمته بالتصديق بما جاء منه واعلم أن التقوى هي الخشية قال في أول النساء تُفْلِحُونَ يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ ( النساء ١ ) ومثله في أول الحج وفي الشعراء إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ ( هود ١٠٦ ) يعني ألا تخشون الله وكذلك قال هود وصالح ولوط وشعيب لقومهم وفي العنكبوت قال إبراهيم لقومه اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ( نوح ٣ ) يعني اخشوه وكذا قوله اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ( آل عمران ١٠٢ ) وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ( البقرة ١٩٧ ) وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا ( البقرة ٤٨ ) واعلم أن حقيقة التقوى وإن كانت هي التي ذكرناها إلا أنها قد جاءت في القرآن والغرض الأصلي منها الإيمان تارة والتوبة أخرى والطاعة ثالثة وترك المعصية رابعاً والإخلاص خامساً أما الإيمان فقوله تعالى وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَة َ التَّقْوَى ( الفتح ٢٦ ) أي التوحيد أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ( الحجرات ٣ ) وفي الشعراء قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ ( الشعراء ١١ ) أي أو يؤمنون وأما التوبة فقوله وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ ( الأعراف ٩٦ ) أي تابوا وأما الطاعة فقوله في النحل أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ فَاتَّقُونِ ( النحل ٢ ) وفيه أيضاً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ ( النحل ٥٢ ) وفي المؤمنين وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ( المؤمنون ٥٢ ) وأما ترك المعصية فقوله وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ ( البقرة ١٨٩ ) أي فلا تعصوه وأما الإخلاص فقوله في الحج فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ( الحج ٣٢ ) أي من إخلاص القلوب فكذا قوله وَإِيَّاى َ فَاتَّقُونِ ( البقرة ٤١ ) واعلم أن مقام التقوى مقام شريف قال تعالى إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ( النحل ١٢٨ ) وقال إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ( الحجرات ١٣ ) وعن ابن عباس قال عليه السلام ( من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله ومن أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق مما في يده ) وقال علي بن أبي طالب التقوى ترك الإصرار عل المعصية وترك الاغترار وبالطاعة قال الحسن التقوى أن لا تختار عل الله سوى الله وتعلم أن الأمور كلها بيد الله وقال إبراهيم بن أدهم التقوى أن لا يجد الخلق في لسانك عيباً ولا الملائكة في أفعالك عيباً ولا ملك العرش في سرك عيباً وقال الواقدي التقوى أن تزين سرك للحق كما زينت ظاهرك للخلق ويقال التقوى أن لا يراك مولاك حيث نهاك ويقال المتقي من سلك سبيل المصطفى ونبذ الدنيا وراء القفا وكلف نفسه الإخلاص والوفا واجتنب الحرام والجفا ولو لم يكن للمتقي فضيلة إلا ما في قوله تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ كفاه لأنه تعالى بين أن القرآن هدى للناس في قوله شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ ( البقرة ١٨٥ ) ثم قال ههنا في القرآن إنه هدي للمتقين فهذا يدل على أن المتقين هم كل الناس فمن لا يكون متقياً كأنه ليس بإنسان


الصفحة التالية
Icon