الصلاة والسلام ما منا من أحد إلا عصى أو هم بمعصية غير يحيى بن زكريا عليهما السلام فثبت أن تقوى الملائكة أشد فوجب أن يكونوا أفضل من البشر لقوله تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم الحجرات ١٣ فإن قيل إن قوله إن أكرمكم عند الله أتقاكم خطاب مع الآدميين فلا يتناول الملائكة وأيضا فالتقوى مشتق من الوقاية ولا شهوة في حق الملائكة فيستحيل تحقق التقوى في حقهم والجواب عن الأول أن ترتيب الكرامة على التقوى يدل على أن الكرامة معللة بالتقوى فحيث كانت التقوى أكثر كانت الكرامة أكثر وعن الثاني لا نسلن عدم الشهوة في حقهم لكن لا شهوة لهم إلا الأكل والمباشرة ولكن لا يلزم من عدم شهوة معينة عدم مطلق الشهوة بل لهم شهوة التقدم والترفع ولهذا قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك وقال تعالى ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم الأنبياء ٢٩ ولقائل أن يقول الحديث الذي ذكرتم يدل على أن يحيى عليه السلام كان أتقى من سائر الأنبياء فوجب أن يكون أفضل من محمد وذلك باطل بالاجماع فعلمنا أنه لا يلزم من زيادة التقوى زيادة الفضل وتحقيقه ما قدمنا أن من المحتمل أن يكون إنسان لم تصدر عنه المعصية قط وصدر عنه من الطاعات ما استحق به مائة جزء من الثواب وإنسان آخر صدرت عنه المعصية ثم أتى بطاعة استحق بها ألف جزء من الثواب فليقابل مائة جزء من الثواب بمئة جزء من العقاب فيبقى له تسعمائة جزء من الثواب فهذا الإنسان مع صدور المعصية منه يكون أفضل من الإنسان الذي لمتصدر المعصية عنه قط وأيضا فلا نسلن أن تقوى الملائكة أشد وذلك لأن التقوى مشتق من الوقاية والمقتضى للمعصية في حق بني آدم أكثر فكان تقوى المتقين منهم أكثر قوله إن الملائكة لهم شهوة الرياسة قلنا هذا لا يضرنا لأن هذه الشهوة حاصلة للبشر أيضا وقد حصلت لهم أنواع أخر من الشهوات وهي شهوة البطن والفرج وإذا كان كذلك كانت الشهوات الصارفة عن الطاعات أكثر في بني آدم فوجب أن تكون تقوى المتقين منهم أشد
وسابعها قوله تعالى لن يستنكف المسيح أن يكون عبد لله ولا الملائكة النقربون النساء ١٧٢ وجه الاستدلال أن قوله تعالى ولا الملائكة المقربون خرج مخرج التأكيد للأول ومثل هذا التأكيد إنما يكون بذكر الأفضل يقال هذه الخشبة لا يقدر على حملها العشرة ولا المائة ولا يقال لا يستنكف عن خدمته الوزير ولا البواب ولقائل هذه الآية إذا دلت فإنما تدل على فضل الملائكة المقربين على المسيح لكن لا يلزم منه فضل الملائكة النقربين على من هو أفضل من المسيح وهو محمد وموسى وإبراهيم عليهم الصلاة والسلام وبالجملة فلو ثبت أن المسيح أفضل من كل الأنبياء كان مقصودهم حاصلا فأما إذا لم يقيموا الدلالة على ذلك فلا يحصل مقصودهم لا سيما وقد أجمع المسلمون على أن محمد ( ﷺ ) أفضل من المسيح عليه السلام وما رأينا أحد من المسلمين قطع بفضل المسيح على موسى وإبراهيم عليهما السلام ثم نقول قوله ولا الملائكة المقربون ليس فيه إلا واو العطف والواو للجمع المطلق فيدل على أن المسيح لا يستنكف والملائكة لا يستنكفون فأما أن يدل على أن الملائكة أفضل من المسيح فلا وأما الأمثلة التي ذكروها فنقول المثال لا يكفي في إثبات الدعوى الكلية ثم إن المثال معارض بأمثلة أخرى وهو قوله ما أعانني على هذا الأمر زيد ولا عمرو فهذا لا يفيد كون عمرو أفضل من زيد وكذا قوله تعالى ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام المائدة ٢ ولما اختلفت الأمثلة امتنع التعويل عليها ثم التحقيق أنه إذا قال


الصفحة التالية
Icon