الآية دالة على أنهم بلغوا في الترفع وعلو الدرجة إلى أنهم لو خالفوا أمر الله تعالى لما خالفوه إلا بادعاء الإلهية لا بشيء آخر من متابعة الشهوات وذلك يدل على نهاية جلالهم ولقائل أن يقول لا نزاع في نهاية جلالهم أما قوله إنهم بلغوا في الترفع وعلو الدرجة إلى حيث لو خالفوا أمر الله تعالى لما خالفوه إلا في ادعاء الإلهية فهذا مسلم وذلك لأن علومهم كثيرة وقواهم شديدة وهم مبرؤون عن شهوة البطن والفرج ومن كان كذلك فلو خالف أمر الله لم يخالف إلا في هذا المعنى الذي ذكرته لكن لم قلتم إن ذلك يدل على أنهم أكثر ثواباً من البشر فإن محل الخلاف ليس إلا ذاك الحجة العشرون قوله عليه الصلاة والسلام رواية عن الله تعالى ( وإذا ذكرني عبدي في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملائه ) وهذا يدل على أن الملأ الأعلى أشرف ولقائل أن يقول هذا خير واحد وأيضاً فهذا يدل على أن ملأ الملائكة أفضل من ملأ البشر وملأ البشر عبارة عن العوام لا عن الأنبياء فلا يلزم من كون الملك أفضل من عامة البشر كونهم أفضل من الأنبياء هذا آخر الكلام في الدلائل النقلية واعلم أن الفلاسفة اتفقوا على أن الأرواح السماوية المسماة بالملائكة أفضل من الأرواح الناطقة البشرية واعتمدوا في هذا الباب على وجوه عقلية نحن نذكرها إن شاء الله تعالى الحجة الأولى قالوا الملائكة ذواتها بسيطة مبرأة عن الكثرة والبشر مركب من النفس والبدن والنفس مركبة من القوى الكثيرة والبدن مركب من الأجزاء الكثيرة والبسيط خير من المركب لأن أسباب العدم للمركب أكثر منها للبسيط ولذلك فإن فردانية الله تعالى من صفات جلاله ونعوت كبريائه الاعتراض عليه لا نسلم أن البسيط أشرف من المركب وذلك لأن جانب الروحاني أمر واحد وجانب الجسماني أمران روحه وجسمه فهو من حيث الروح من عالم الروحانيات والأنوار ومن حيث الجسد من عالم الأجساد فهو لكونه مستجمعاً للروحاني والجسماني يجب أن يكون أفضل من الروحاني الصرف والجسماني الصرف وهذا هو السر في أن جعل البشر الأول مسجوداً للملائكة ومن جه آخر وهو أن الأرواح الملكية مجردات مفارقة عن العلائق الجسمانية فكأن استغراقها في مقاماتها النورانية عاقها عن تدبير هذا العالم الجسداني أما النفوس البشرية النبوية فإنها قويت على الجمع بين العالمين فلا دوام ترقيها في معارج المعارف وعوالم القدس يعوقها عن تدبير العالم السفلي ولا التفاتها إلى مناظم عالم الأجسام يمنعها عن الاستكمال في عالم الأرواح فكانت قوتها وافية بتدبير العالمين محيطة بضبط الجنسين فوجب أن تكون أشرف وأعظم الحجة الثانية الجواهر الروحانية مبرأة عن الشهوة التي هي منشأ سفك الدماء والأرواح البشرية مقرونة بها والخالي عن منبع الشر أشرف من المبتلى به الاعتراض لا شك أن المواظبة على الخدمة مع كثرة الموانع والعوائق أدل على الإخلاص من المواظبة عليها من غير شيء من العوائق والموانع وذلك يدل على أن مقام البشر في المحبة أعلى وأكمل وأيضاً فالروحانيات لما أطاعت خالقها لم تكن طاعتها موجبة قهر الشياطين الذين هم أعداء الله أما الأرواح البشرية لما أطاعت خالقها لزم من تلك الطاعة قهر القوى الشهوانية والغضبية وهي شياطين الإنس فكانت طاعاتهم أكمل وأيضاً فمن الظاهر أن درجات الروحانيات حين قالت لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا أكمل من درجاتهم حين قالت أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ( البقرة ٣٠ ) وما ذاك إلا بسبب الانكسار الحاصل من الزلة وهذا في البشر أكمل ولهذا قال عليه الصلاة والسلام حكاية عن ربه تعالى ( لأنين المذنبين أحب إليّ من زجل المسبحين )


الصفحة التالية
Icon