فإن قيل فيتحملون الغشاوة في البصر أيضاً على معنى العلامة قلنا لا لأنا إنما حملنا ما تقدم على السمة والعلامة لأن حقيقة اللغة تقتضي ذلك ولا مانع منه فوجب إثباته أما الغشاوة فحقيقتها الغطاء المانع من الإبصار ومعلوم من حال الكفار خلاف ذلك فلا بدّ من حمله على المجاز وهو تشبيه حالهم بحال من لا ينتفع ببصره في باب الهداية فهذا مجموع أقوال الناس في هذا الموضع
المسألة الثالثة الألفاظ الواردة في القرآن القريبة من معنى الختم هي الطبع والكنان والرين على القلب والوقر في الآذان والغشاوة في البصر ثم الآيات الواردة في ذلك مختلفة فالقسم الأول وردت دلالة على حصول هذه الأشياء قال كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ ( المطففين ١٤ ) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْراً ( الأنعام ٢٥ ) وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ ( التوبة ٨٧ ) بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ( النساء ١٥٥ ) فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ( فصلت ٤ ) لّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً ( ي س ٧٠ ) إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء النحل ٨٠ ) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ ( البقرة ١٠ ) والقسم الثاني وردت دلالة على أنه لا مانع البتة وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ ( الأسراء ٩٤ ) فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ( االكهف ٢٩ ) لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( البقرة ٢٨٦ ) وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( الحج ٧٨ ) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ( البقرة ٢٨ ) لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ( آل عمران ٧١ ) والقرآن مملوء من هذين القسمين وصار كل قسم منهما متمسكاً لطائفة فصارت الدلائل السمعية لكونها من الطرفين واقعة في حيز التعارض أما الدلائل العقلية فهي التي سبقت الإشارة إليها وبالجملة فهذه المسألة من أعظم المسائل الإسلامية وأكثرها شعباً وأشدها شغباً ويحكى أن الإمام أبا القاسم الأنصاري سئل عن تكفير المعتزلة في هذه المسألة فقال لا لأنهم نزهوه فسئل عن أهل السنّة فقال لا لأنهم عظموه والمعنى أن كلا الفريقين ما طلب إلا إثبات جلال الله وعلو كبريائه إلا أن أهل السنّة وقع نظرهم على العظمة فقالوا ينبغي أن يكون هو الموجد ولا موجد سواه والمعتزلة وقع نظرهم على الحكمة فقالوا لا يليق بجلال حضرته هذه القبائح وأقول ههنا سر آخر وهو أن إثبات الإله يلجىء إلى القول بالجبر لأن الفاعلية لو لم تتوقف على الداعية لزم وقوع الممكن من غير مرجح وهو نفي الصانع ولو توقفت لزم الجبر وإثبات الرسول يلجىء إلى القول بالقدرة بل ههنا سر آخر هو فوق الكل وهو أنا لما رجعنا إلى الفطرة السليمة والعقل الأول وجدنا أن ما استوى الوجود والعدم بالنسبة إليه لا يترجح أحدهما على الآخر إلا لمرجح وهذا يقتضي الجبر ونجد أيضاً تفرقة بديهية بين الحركات الاختيارية والحركات الاضطرارية وجزماً بديهياً بحسن المدح وقبح الذم والأمر والنهي وذلك يقتضي مذهب المعتزلة فكأن هذه المسألة وقعت في حيز التعارض بحسب العلوم الضرورية وبحسب العلوم النظرية وبحسب تعظيم الله تعالى نظراً إلى قدرته وحكمته وبحسب التوحيد والتنزيه وبحسب الدلائل السمعية فلهذه المآخذ التي شرحناها والأسرار التي كشفنا عن حقائقها صعبت المسألة وغمضت وعظمت فنسأل الله العظيم أن يوفقنا للحق وأن يختم عاقبتنا بالخير آمين رب العالمين
المسألة الخامسة قال صاحب الكشاف اللفظ يحتمل أن تكون الأسماع داخلة في حكم الختم وفي حكم التغشية إلا أن الأولى دخولها في حكم الختم لقوله تعالى وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَة ً ( الجاثية ٢٣ ) ولوقفهم على سمعهم دون قلوبهم


الصفحة التالية
Icon