اعلم أنه لما كان المعلوم من حالهم أنهم كانوا يسمعون وينطقون ويبصرون امتنع حمل ذلك على الحقيقة فلم يبق إلا تشبيه حالهم لشدة تمسكهم بالعناد وإعراضهم عما يطرق سمعهم من القرآن وما يظهره الرسول من الأدلة والآيات بمن هو أصم في الحقيقة فلا يسمع وإذا لم يسمع لم يتمكن من الجواب فلذلك جعله بمنزلة الأبكم وإذا لم ينتفع بالأدلة ولم يبصر طريق الرشد فهو بمنزلة الأعمى أما قوله فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ففيه وجوه أحدها أنهم لا يرجعون عما تقدم ذكره وهو التمسك بالنفاق الذي لأجل تمسكهم به وصفهم الله تعالى بهذ الصفات فصار ذلك دلالة على أنهم يستمرون على نفاقهم أبداً وثانيها أنهم لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه وعن الضلالة بعد أن اشتروها وثالثها أراد أنهم بمنزلة المتحيرين الذين بقوا خامدين في مكانهم لا يبرحون ولا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون وكيف يرجعون إلى حيث ابتدأوا منه
أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
اعلم أن هذا هو المثل الثاني للمنافقين وكيفية المشابهة من وجوه أحدها أنه إذا حصل السحاب الذي فيه الظلمات والرعد والبرق واجتمع مع ظلمة السحاب ظلمة الليل وظلمة المطر عند ورود الصواعق عليهم يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت وأن البرق يكاد يخطف أبصارهم فإذا أضاء لهم مشوا فيه وإذا ذهب بقوا في ظلمة عظيمة فوقفوا متحيرين لأن من أصابه البرق في هذه الظلمات الثلاث ثم ذهب عنه تشتد حيرته وتعظم الظلمة في عينه وتكون له مزية على من لم يزل في الظلمة فشبه المنافقين في حيرتهم وجهلهم بالدين بهؤلاء الذين وصفهم إذ كانوا لا يرون طريقاً ولا يهتدون وثانيها أن المطر وإن كان نافعاً إلا أنه لما وجد في هذه الصورة مع هذه الأحوال الضارة صار النفع به زائلاً فكذا إظهار الإيمان نافع للمنافق لو وافقه الباطن فإذا فقد منه الإخلاص وحصل معه النفاق صار ضرراً في الدين وثالثها أن من نزل به هذه الأمور مع الصواعق ظن المخلص منها أن يجعل أصابعه في أذنيه وذلك لا ينجيه مما يريده تعالى به من هلاك وموت فلما تقرر ذلك في العادات شبه تعالى حال المنافقين في ظنهم أن إظهارهم للمؤمنين ما أظهروه ينفعهم مع أن الأمر في الحقيقة ليس كذلك بما ذكر ورابعها أن عادة المنافقين كانت هي التأخر عن الجهاد فراراً من الموت والقتل فشبه الله حالهم في ذلك بحال من نزلت هذه الأمور به وأراد دفعها يجعل إصبعيه في أذنيه وخامسها أن هؤلاء الذين يجعلون


الصفحة التالية
Icon