وثانيها إنا رأينا عالماً من الناس قد تفكروا واجتهدوا وحصل لهم عقيب فكرهم اعتقاد وكانوا جازمين بأنه علم ثم ظهر لهم أو لغيرهم أن ذلك كان جهلاً فرجعوا عنه وتركوه وإذا شاهدنا ذلك في الوقت الأول جاز أن يكون الاعتقاد الحاصل ثانياً كذلك وعلى هذا الطريق لا يمكن الجزم بصحة شيء من العقائد المستفادة من الفكر والنظر وثالثها أن المطلوب إن كان مشعوراً به استحال طلبه لأن تحصيل الحاصل محال وإن كان غير مشعور به كان الذهن غافلاً عنه و المغفول عنه يستحيل أن يتوجه الطلب إليه ورابعها أن العلم يكون النظر مفيداً للعلم إما أن يكون ضرورياً أو نظرياً فإن كان ضرورياً وجب اشتراك العقلاء فيه وليس كذلك وإن كان نظرياً لزم إثبات جنس الشيء بفرد من أفراده وذلك محال لأن النزاع لما وقع في الماهية كان واقعاً في ذلك الفرد أيضاً فيلزم إثبات الشيء بنفسه وهو محال لأنه من حيث أنه وسيلة الإثبات يجب أن يكون معلوماً قبل ومن حيث أنه مطلوب يجب أن لا يكون معلوماً قبل فيلزم اجتماع النفي والإثبات وهو محال وخامسها أن المقدمة الواحدة لا تنتج بل المنتج مجموع المقدمتين لكن حضور المقدمتين دفعة واحدة في الذهن محال لأنا جربنا أنفسنا فوجدنا أنا متى وجهنا الخاطر نحو معلوم استحال في ذلك الوقت توجيهه نحو معلوم آخر وربما سلم بعضهم أن النظر في الجملة يفيد العلم لكنه يقول النظر في الإلاهيات لا يفيد واحتج عليه بوجهين الأول أن حقيقة الإله غير متصورة وإذا لم تكن الحقيقة متصورة استحال التصديق لا بثبوته ولا بثبوت صفة من صفاته بيان الأول أن المعلوم عند البشر كون واجب الوجود منزهاً عن الحيز والجهة وكونه موصوفاً بالعلم والقدرة أما الوجوب والتنزيه فهو قيد سلبي وليست حقيقته نفس هذا السلب فلم يكن العلم بهذا السلب علماً بحقيقته وأما الموصوفية بالعلم والقدرة فهو عبارة عن انتساب ذاته إلى هذه الصفات وليست ذاته نفس هذا الانتساب فالعلم بهذا الانتساب ليس علماً بذاته بيان الثاني أن التصديق موقوف على التصور فإذا فقد التصور امتنع التصديق ولا يقال ذاته تعالى وإن لم تكن متصورة بحسب الحقيقة المخصوصة التي له لكنها متصورة بحسب لوازمها أعني أنا نعلم أنه شيء ما يلزمه الوجوب والتنزيه والدوام فيحكم على هذا المتصور قلنا هذه الأمور المعلومة إما أن يقال إنها نفس الذات وهو محال أو أمور خارجة عن الذات فلما لم نعلم الذات لا يمكننا أن نعلم كونها موصوفة بهذه الصفات فإن كان التصور الذي هو شرط إسناد هذه الصفات إلى ذاته هو أيضاً تصور بحسب صفات آخر فحينئذٍ يكون الكلام فيه كما في الأول فيلزم التسلسل وهو محال الوجه الثاني أن أظهر الأشياء عندنا ذاتنا وحقيقتنا التي إليها نشير بقولنا أنا ثم الناس تحيروا في ماهية المشار إليه يقول أنا فمنهم من يقول هو هذا البنية ومنهم من يقول هو المزاج ومنهم من يقول بعض الأجزاء الداخلة في هذه البنية ومنهم من يقول شيء لا داخل هذا البدن ولا خارجه فإذا كان الحال في أظهر الأشياء كذلك فما ظنك بأبعد الأشياء مناسبة عنا وعن أحوالنا


الصفحة التالية
Icon