لا نسلم أن العبادة نفس التقوى بل العبادة فعل يحصل به التقوى لأن الاتقاء هو الاحتراز عن المضار والعبادة فعل المأمور به ونفس هذا الفعل ليس هو نفس الاحتراز عن المضار بل يوجب الاحتراز فكأنه تعالى قال اعبدوا ربكم لتحترزوا به عن عقابه وإذا قيل في نفس الفعل إنه اتقاء فذلك مجاز لأن الاتقاء غير ما يحصل به الاتقاء لكن لاتصال أحد الأمرين بالآخر أجرى اسمه عليه الثاني أنه تعالى إنما خلق المكلفين لكي يتقوا ويطيعوا على ما قال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات ٥٦ ) فكأنه تعالى أمر بعبادة الرب الذي خلقهم لهذا الغرض وهذا التأويل لائق بأصول المعتزلة
المسألة السادسة قرأ أبو عمرو خلقكم بالإدغام وقرأ أبو السميفع وخلق من قبلكم وقرأ زيد بن علي والذين من قبلكم قال صاحب ( الكشاف ) الوجه فيه أنه أفحم الموصول الثاني بين الأول وصلته تأكيداً كما أقحم جرير في قوله يا تيم تيم عدي لا أبا لكموا تيما الثاني بين الأول وما أضيف إليه
أما قوله تعالى الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ ففيه مسائل
المسألة الأولى لفظ ( الذي ) وهو موصول مع صلته إما أن يكون في محل النصب وصفاً للذي خلقكم أو على المدح والتعظيم وإما أن يكون رفعاً على الابتداء وفيه ما في النصب من المدح
المسألة الثانية ( الذي ) كلمة موضوعة للإشارة إلى مفرد عند محاولة تعريفه بقضية معلومة كقولك ذهب الرجل الذي أبوه منطلق فأبوه منطلق قضية معلومة فإذا حاولت تعريف الرجل بهذه القضية المعلومة أدخلت عليه الذي وهو تحقيق قولهم إنه مستعمل لوصف المعارف بالجمل إذا ثبت هذا فقوله الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء يقتضي أنهم كانوا عالمين بوجود شيء جعل الأرض فراشاً والسماء بناء وذلك تحقيق قوله تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( لقمان ٢٥ الزممر ٣٨ )
المسألة الثالثة أن الله تعالى ذكر ههنا خمسة أنواع من الدلائل اثنين من الأنفس وثلاثة من الآفاق فبدأ أولاً بقوله خَلَقَكُمْ وثانياً بالآباء والأمهات وهو قوله وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وثالثاً بكون الأرض فراشاً ورابعاً بكون السماء بناء وخامساً بالأمور الحاصلة من مجموع السماء والأرض وهو قوله وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ ولهذا الترتيب أسباب الأول أن أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسه وعلم الإنسان بأحوال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره وإذا كان الغرض من الاستدلال إفادة العلم فكل ما كان أظهر دلالة كان أقوى إفادة وكان أولى بالذكر فلهذا السبب قدم ذكر نفس الإنسان ثم ثناه بآبائه وأمهاته ثم ثلث بالأرض لأن الأرض أقرب إلى الإنسان من السماء والإنسان أعرف بحال الأرض منه بأحوال السماء وإنما قدم ذكر السماء على نزول الماء من السماء وخروج الثمرات بسببه لأن ذلك كالأمر المتولد من السماء والأرض والأثر متأخر عن المؤثر فلهذا السبب أخر الله ذكره عن ذكر الأرض والسماء الثاني هو أن خلق المكلفين أحياء قادرين أصل لجميع النعم وأما خلق الأرض والسماء والماء فذاك إنما ينتفع به بشرط حصول الخلق والحياة والقدرة والشهوة فلا جرم قدم ذكر الأصول على الفروع


الصفحة التالية
Icon