المسألة الثالثة قوله فِى عُنُقِهِ كناية عن اللزوم كما يقال جعلت هذا في عنقك أي قلدتك هذا العمل وألزمتك الاحتفاظ به ويقال قلدتك كذا وطوقتك كذا أي صرفته إليك وألزمته إياك ومنه قلده السلطان كذا أي صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة ومكان الطوق ومنه يقال فلان يقلد فلاناً أي جعل ذلك الاعتقاد كالقلادة المربوطة على عنقه قال أهل المعاني وإنما خص العنق من بين سائر الأعضاء بهذا المعنى لأن الذي يكون عليه إما أن يكون خيراً يزينه أو شراً يشينه وما يزين يكون كالطوق والحلي والذي يشين فهو كالغل فههنا عمله إن كان من الخيرات كان زينة له وإن كان من المعاصي كان كالغل على رقبته
ثم قال تعالى وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً قال الحسن يا ابن آدم بسطنا لك صحيفة ووكل بك ملكان فهما عن يمينك وشمالك فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك حتى إذا مت طويت صحيفتك وجعلت معك في قبرك حتى تخرج لك يوم القيامة قوله وَنُخْرِجُ لَهُ أي من قبره يجوز أن يكون معناه نخرج له ذلك لأنه لم ير كتابه في الدنيا فإذا بعث أظهر له ذلك وأخرج من الستر وقرأ يعقوب ( ويخرج له يوم القيامة كتاباً ) أي يخرج له الطائر أي عمله كتاباً منشوراً كقوله تعالى وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ( التكوير ١٠ ) وقرأ ابن عمر ( يلقاه ) من قولهم لقيت فلاناً الشيء أي استقبلته به قال تعالى وَلَقَّاهُمْ نَضْرَة ً وَسُرُوراً ( الإنسان ١١ ) وهو منقول بالتشديد من لقيت الشيء ولقانيه زيد
ثم قال تعالى اقْرَأْ كَتَابَكَ والتقدير يقال له وهذا القائل هو الله تعالى على ألسنة الملائكة اقْرَأْ كَتَابَكَ قال الحسن يقرؤه أمياً كان أو غير أمي وقال بكر بن عبد الله يؤتى بالمؤمن يوم القيامة بصحيفته وهو يقرؤها وحسناته في ظهرها يغبطه الناس عليها وسيئاته في جوف صحيفته وهو يقرؤها حتى إذا ظن أنها أوبقته قال الله تعالى ( اذهب فقد غفرتها لك فيما بيني وبينك ) فيعظم سروره ويصير من الذين قال في حقهم وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَة ٌ ضَاحِكَة ٌ مُّسْتَبْشِرَة ٌ ( عبس ٣٨ ٣٩ ) ثم يقول هَاؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ ( الحاقة ١٩ )
وأما قوله كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا أي محاسباً قال الحسن عدل والله في حقك من جعلك حسيب نفسك قال السدي يقول الكافر يومئذ إنك قضيت أنك لست بظلام للعبيد فاجعلني أحاسب نفسي فيقال له اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا والله أعلم
المسألة الرابعة قال حكماء الإسلام هذه الآية في غاية الشرف وفيها أسرار عجيبة في أبحاث
البحث الأول أنه تعالى جعل فعل العبد كالطير الذي يطير إليه وذلك لأنه تعالى قدر لكل أحد في الأزل مقداراً من الخير والشر فذلك الحكم الذي سبق في علمه الأزلي وحكمه الأزلي لا بد وأن يصل إليه فذلك الحكم كأنه طائر يطير إليه من الأزل إلى ذلك الوقت فإذا حضر ذلك الوقت وصل إليه ذلك الطائر وصولاً لا خلاص له ألبتة ولا انحراف عنه ألبتة وإذا علم الإنسان في كل قول وفعل ولمحة وفكرة أنه كان ذلك بمنزلة طئر طيره الله إليه على منهج معين وطريق معين وأنه لا بد وأن يصل إليه ذلك الطائر فعند ذلك عرف أن الكفاية الأبدية لا تتم إلا بالعناية الأزلية


الصفحة التالية
Icon