المأمور به قيام أو قراءة فكذا ههنا لما قال أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا وجب أن يكون المعنى أمرناهم بالفسق ففسقوا لا يقال يشكل هذا بقولهم أمرته فعصاني أو فخالفني فإن هذا لا يفهم منه أني أمرته بالمعصية والمخالفة لأنا نقول إن المعصية منافية للأمر ومناقضة له فكذلك أمرته ففسق يدل على أن المأمور به شيء غير الفسق لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به فكونه فسقاً ينافي كونه مأموراً به كما أن كونها معصية ينافي كونها مأموراً بها فوجب أن يدل هذا اللفظ على أن المأمور به ليس بفسق وهذا الكلام في غاية الظهور فلا أدري لم أصر صاحب ( الكشاف ) على قوله مع ظهور فساده فثبت أن الحق ما ذكره الكل وهو أن المعنى أمرناهم بالأعمال الصالحة وهي الإيمان والطاعة والقوم خالفوا ذلك الأمر عناداً وأقدموا على الفسق
القول الثاني في تفسير قوله أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا أي أكثرنا فساقها قال الواحدي العرب تقول أمر القوم إذا كثروا وأمرهم الله إذ كثرهم وآمرهم أيضاً بالمد روى الجرمي عن أبي زيد أمر الله القوم وآمرهم أي كثرهم واحتج أبو عبيدة على صحة هذه اللغة بقوله ( ﷺ ) ( خير المال مهرة مأمورة وسكة مأبورة ) والمعنى مهرة قد كثر نسلها يقولون أمر الله المهرة أي كثر ولدها ومن الناس من أنكر أن يكون أمر بمعنى كثر وقالوا أمر القوم إذا كثروا وآمرهم الله بالمد أي كثرهم وحملوا قوله عليه الصلاة والسلام ( مهر مأمورة ) على أن المراد كونها مأمورة بتكثير النسل على سبيل الاستعارة وأما المترف فمعناه في اللغة المتنعم الذي قد أبطرته النعمة وسعة العيش فَفَسَقُواْ فِيهَا أي خرجوا عما أمرهم الله فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ يريد استوجبت العذاب وهذا كالتفسير لقوله تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ( الإسراء ١٥ ) وقوله وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمّهَا رَسُولاً ( القصص ٥٩ ) وقوله ذالِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ( الأنعام ١٣١ ) فلما حكم تعالى في هذه الآيات أنه تعالى لا يهلك قرية حتى يخالفوا أمر الله فلا جرم ذكر أنه ها هنا يأمرهم فإذا خالفوا الأمر فعند ذلك استوجبوا الأهلاك المعبر عنه بقوله فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ وقوله فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا أي أهلكناها إهلاك الاستئصال والدمار هلاك على سبيل الاستئصال
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة مذهبهم من وجوه الأول أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى أراد إيصال الضرر إليهم ابتداء ثم توسل إلى إهلاكهم بهذا الطريق الثاني أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى إنما خص المترفين بذلك الأمر لعلمه بأنهم يفسقون وذلك يدل على أنه تعالى أراد منهم الفسق والثالث أنه تعالى قال فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ بالتعذيب والكفر ومتى حق عليها القول بذلك امتنع صدور الإيمان منهم لأن ذلك يستلزم انقلاب خبر الله تعالى الصدق كذباً وذلك محال والمفضي إلى المحال محال قال الكعبي إن سائر الآيات دلت على أنه تعالى لا يبتدىء بالتعذيب والإهلاك لقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ( الرعد ١١ ) وقوله مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ ( النساء ١٤٧ ) وقوله وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ( القصص ٥٩ ) فكل هذه الآيات تدل على أنه تعالى لا يبتدىء بالإضرار وأيضاً ما قبل هذه الآية يدل على هذا المعنى وهو قوله مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( الإسراء ١٥ ) ومن المحال أن يقع بين آيات القرآن تناقض فثبت أن الآيات التي تلوناها محكمة وكذا الآية التي نحن في تفسيرها فيجب حمل هذه الآية


الصفحة التالية
Icon