ثم قال تعالى رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ والمعنى أنا قد أمرناكم في هذه الآية بإخلاص العبادة لله تعالى وبالإحسان بالوالدين ولا يخفى على الله ما تضمرونه في أنفسكم من الإخلاص في الطاعة وعدم الإخلاص فيها فاعلموا أن الله تعالى مطلع على ما في نفوسكم بل هو أعلم بتلك الأحوال منكم بها لأن علوم البشر قد يختلط بها السهو والنسيان وعدم الإحاطة بالكل فأما علم الله فمنزه عن كل هذه الأحوال وإذا كان الأمر كذلك كان عالماً بكل ما في قلوبكم والمقصود منه التحذير عن ترك الإخلاص
ثم قال تعالى إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ أي إن كنتم برآء عن جهات الفساد في أحوال قلوبكم كنتم أوابين أي رجاعين إلى الله منقطعين إليه في كل الأعمال وسنة الله وحكمه في الأوابين أنه غفور لهم يكفر عنهم سيآتهم والأواب هو الذي من عادته وديدنه الرجوع إلى أمر الله تعالى والالتجاء إلى فضله ولا يلتجىء إلى شفاعة شفيع كما يفعله المشركون الذين يعبدون من دون الله جماداً يزعمون أنه يشفع لهم ولفظ الأواب على وزن فعال وهو يفيد المداومة والكثرة كقولهم قتال وضراب والمقصود من هذه الآية أن الآية الأولى لما دلت على وجوب تعظيم الوالدين من كل الوجوه ثم إن الولد قد يظهر منه نادرة مخلة بتعظيمهما فقال رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ يعني أنه تعالى عالم بأحوال قلوبكم فإن كانت تلك الهفوة ليست لأجل العقوق بل ظهرت بمقتضى الجبلة البشرية كانت في محل الغفران والله أعلم
وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَآءَ رَحْمَة ٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا
اعلم أن هذا هو النوع الرابع من أعمال الخير والطاعة المذكورة في هذه الآيات وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله وَءاتِ خطاب مع من فيه قولان
القول الأول أنه خطاب للرسول ( ﷺ ) فأمره الله أن يؤتي أقاربه الحقوق التي وجبت لهم في الفيء والغنيمة وأوجب عليه أيضاً إخراج حق المساكين وأبناء السبيل أيضاً من هذين المثالين
والقول الثاني أنه خطاب للكل والدليل عليه أنه معطوف على قوله وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ( الإسراء ٢٣ ) والمعنى أنك بعد فراغك من بر الوالدين يجب أن تشتغل ببر سائر الأقارب الأقرب فالأقرب ثم بإصلاح أحوال المساكين وأبناء السبيل
واعلم أن قوله تعالى وَءاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ مجمل وليس فيه بيان أن ذلك الحق ما هو وعند الشافعي رحمه الله أنه لا يجب الانفاق إلا على الولد والوالدين وقال قوم يجب الإنفاق على المحارم بقدر


الصفحة التالية
Icon