الأخرى والله العالم بحقائق الأمور ونرجع إلى التفسير أما قوله تعالى لا أَبْرَحُ قال الزجاج قوله لا أَبْرَحُ ليس معناه لا أزول لأنه لو كان كذلك لم يقطع أرضاً أقول يمكن أن يجاب عنه بأن الزوال عن الشيء عبارة عن تركه والإعراض عنه يقال زال فلان عن طريقته في الجود أي تركها فقوله لا أبرح بمعنى لا أزول عن السير والذهاب بمعنى لا أترك هذا العمل وهذا الفعل وأقول المشهور عند الجمهور أن قوله لا أبرح معناه لا أزول والعرب تقول لا أبرح ولا أزال ولا انفك ولا افتأ بمعنى واحد قال القفال وقالوا أصل قولهم لا أبرح من البراح كما أن أصل لا أزال من الزوال يقال زال يزال ويزول كما يقال دام يدام ويدوم ومات يمات ويموت إلا أن المستعمل في هذه اللفظة يزال فقوله لا أبرح أي أقيم لأن البراح هو العدم فقوله لا أبرح يكون عدماً للعدم فيكون ثبوتاً فقوله لا أزال ولا أبرح يفيد الدوام والثبات على العمل فإن قيل إذا كان قوله لا أبرح بمعنى لا أزال فلا بد من الخبر قلنا حذف الخبر لأن الحال والكلام يدلان عليه أما الحال فلأنها كانت حال سفر وأما الكلام فلأن قوله حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ غاية مضروبة تستدعي شيئاً هي غاية له فيكون المعنى لا أبرح أسير حتى أبلغ مجمع البحرين ويحتمل أن يكون المعنى لا أبرح مما أنا عليه يعني ألزم المسير والطلب ولا أتركه ولا أفارقه حتى أبلغ كما تقول لا أبرح المكان وأما مجمع البحرين فهو المكان الذي وعد فيه موسى بلقاء الخضر عليهما السلام وهو ملتقى بحري فارس والروم مما يلي المشرق وقيل غيره وليس في اللفظ ما يدل على تعيين هذين البحرين فإن صح بالخبر الصحيح شيء فذاك وإلا فالأولى السكوت عنه ومن الناس من قال البحران موسى والخضر لأنهما كانا بحري العلم وقرىء مجمع بكسر الميم ثم قال أو أمضى حقباً أي أسير زماناً طويلاً وقيل الحقب ثمانون سنة وقد تكلمنا في هذا اللفظ في قوله تعالى لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً ( النبأ ٢٣ ) وحاصل الكلام أن الله عز وجل كان أعلم موسى حال هذا العالم وما أعلمه موضعه بعينه فقال موسى عليه السلام لا أزال أمضي حتى يجتمع البحران فيصيرا بحراً واحداً أو أمضي دهراً طويلاً حتى أجد هذا العالم وهذا إخبار من موسى بأنه وطن نفسه على تحمل التعب الشديد والعناء العظيم في السفر لأجل طلب العلم وذلك تنبيه على أن المتعلم لو سافر من المشرق إلى المغرب لطلب مسألة واحدة لحق له ذلك ثم قال تعالى فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا والمعنى فانطلقا إلى أن بلغا مجمع بينهما والضمير في قوله بينهما إلى ماذا يعود فيه قولان الأول مجمع بينهما أي مجمع البحرين وهو كأنه إشارة إلى ( قول ) موسى لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أي فحقق ( الله ) ما قاله والقول الثاني أن المعنى فلما بلغ الموضع الذي يجتمع ( فيه ) موسى وصاحبه الذي كان يقصده لأن ذلك الموضع الذي وقع فيه نسيان الحوت هو الموضع الذي كان يسكنه الخضر أو يسكن بقربه ولأجل هذا المعنى لما رجع موسى وفتاه بعد أن ذكر الحوت صار إليه وهو معنى حسن والمفسرون على القول الأول ثم قال تعالى نَسِيَا حُوتَهُمَا وفيه مباحث
البحث الأول الروايات تدل على أنه تعالى بين لموسى عليه السلام أن هذا العالم موضعه مجمع البحرين إلا أنه تعالى جعل انقلاب الحوت حياً علامة على مسكنه المعين كمن يطلب إنساناً فيقال له إن موضعه محلة كذا من الري فإذا انتهيت إلى المحلة فسل فلاناً عن داره وأين ما ذهب بك فاتبعه فإنك تصل إليه فكذا ههنا قيل له إن موضعه مجمع البحرين فإذا وصلت إليه رأيت الحوت انقلب حياً وطفر إلى البحر فيحتمل أنه قيل له فهنالك موضعه ويحتمل أنه قيل له فاذهب على موافقة ذهاب ذلك الحوت فإنك تجده


الصفحة التالية
Icon