الحجة الرابعة أن ذلك العبد أظهر الترفع على موسى حيث قال له صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً وأما موسى فإنه أظهر التواضع له حيث قال لا أَعْصِى لَكَ أمْراً وكل ذكل يدل على أن ذلك العالم كان فوق موسى ومن لا يكون نبياً لا يكون فوق النبي وهذا أيضاً ضعيف لأنه يجوز أن يكون غير النبي فوق النبي في علوم لا تتوقف نبوته عليها فلم قلتم إن ذلك لا يجوز فإن قالوا لأنه يوجب التنفير قلنا فارسال موسى إلى التعلم منه بعد إنزال الله عليه التوراة وتكليمه بغير واسطة يوجب التنفير فإن قالوا إن هذا لا يوجب التنفير فكذا القول فيما ذكروه
الحجة الخامسة احتج الأصم على نبوته بقوله في أثناء القصة وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى ومعناه فعلته بوحي الله وهو يدل على النبوة وهذا أيضاً دليل ضعيف وضعفه ظاهر
الحجة السادسة ما روي أن موسى عليه السلام لما وصل إليه قال السلام عليك فقال وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل فقال موسى عليه السلام من عرفك هذا قال الذي بعثك إلي قالوا وهذا يدل على أنه إنما عرف ذلك بالوحي والوحي لا يكون إلا مع النبوة ولقائل أن يقول لم لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات والإلهامات
البحث الثاني قال الأكثرون إن ذلك العبد هو الخضر وقالوا إنما سمي بالخضر لأنه كان لا يقف موقفاً إلا أخضر ذلك الموضع قال الجبائي قد ظهرت الرواية أن الخضر إنما بعث بعد موسى عليه السلام من بني إسرائيل فإن صح ذلك لم يجز أن يكون هذا العبد هو الخضر وأيضاً فبتقدير أن يكون هذا العبد هو الخضر وقد ثبت أنه يجب أن يكون نبياً فهذا يقتضي أن يكون الخضر أعلى شأناً من موسى صاحب التوراة لأنا قد بينا أن الألفاظ المذكورة في هذه الآيات تدل على أن ذلك كان يترفع على موسى وكان موسى يظهر التواضع له إلا أن كون الخضر أعلى شأناً من موسى غير جائز لأن الخضر إما أن يقال إنه كان من بني إسرائيل أو ما كان من بني إسرائيل فإن قلنا إنه كان من بني إسرائيل ( فقد ) كان من أمة موسى لقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام أنه قال لفرعون أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْراءيلَ ( الشعراء ١٧ ) والأمة لا تكون أعلى حالاً من النبي وإن قلنا إنه ما كان من بني إسرائيل لم يجز أن يكون أفضل من موسى لقوله تعالى لبني إسرائيل وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( البقرة ٤٧ ) وهذه الكلمات تقوي قول من يقول إن موسى هذا غير موسى صاحب التوراة
المسألة الثالثة قوله وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا يفيد أن تلك العلوم حصلت عنده من عند الله من غير واسطة والصوفية سموا العلوم الحاصلة بطريق المكاشفات العلوم اللدنية وللشيخ أبي حامد الغزالي رسالة في إثبات العلوم اللدنية وأقول تحقيق الكلام في هذا الباب أن نقول إذا أدركنا أمراً من الأمور وتصورنا حقيقة من الحقائق فإما أن نحكم عليه بحكم وهو التصديق أو لا نحكم وهو التصور وكل واحد من هذين القسمين فإما أن يكون نظرياً حاصلاً من غير كسب وطلب وإما أن يكون كسبياً أم العلوم النظرية فهي تحصل في النفس والعقل من غير كسب وطلب مثل تصورنا الألم واللذة والوجود والعدم ومثل تصديقنا بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان وأن الواحد نصف الإثنين وأما العلوم الكسبية فهي التي لا تكون حاصلة في جوهر النفس ابتداء بل لا بد من طريق يتوصل به إلى اكتساب تلك العلوم وهذا الطريق


الصفحة التالية
Icon