الفعل قالوا لو كانت الاستطاعة على الفعل حاصلة قبل حصول الفعل لكانت الاستطاعة على الصبر حاصلة لموسى عليه السلام قبل حصول الصبر فيلزم أن يصير قوله إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِى َ صَبْراً كذباً ولما بطل ذلك علمنا أن الاستطاعة لا توجد قبل الفعل أجاب الجبائي عنه أن المراد من هذا القول أنه يثقل عليه الصبر لا أنه لا يستطيعه يقال في العرف إن فلاناً لا يستطيع أن يرى فلاناً و ( لا ) أن يجالسه إذا كان يثقل عليه ذلك ونظيره قوله تعالى مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ أي كان يشق عليهم الاستماع فيقال له هذا عدول عن الظاهر من غير دليل وإنه لا يجوز وأقول مما يؤكد هذا الاستدلال الذي ذكره الأصحاب قوله تعالى وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً استبعد حصول الصبر على ما لم يقف الإنسان على حقيقته ولو كانت الاستطاعة قبل الفعل لكانت القدرة على العلم حاصلة قبل حصول ذلك العلم ولو كان كذلك لما كان حصول الصبر عند عدم ذلك العلم مستبعداً لأن القادر على الفعل لا يبعد منه إقدامه على ذلك الفعل ولما حكم الله باستبعاده علمنا أن الاستطاعة لا تحصل قبل الفعل ثم حكى الله تعالى عن موسى أنه قال سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً وفيه مسائل
المسألة الأولى احتج الطاعنون في عصمة الله الأنبياء بهذه الآية فقالوا إن الخضر قال لموسى إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِى َ صَبْراً وقال موسى سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً وكل واحد من هذين القولين يكذب الآخر فيلزم إلحاق الكذب بأحدهما وعلى التقديرين فيلزم صدور الكذب عن الأنبياء عليهم السلام والجواب أن يحمل قوله إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِى َ صَبْراً على الأكثر الأغلب وعلى هذا التقدير فلا يلزم ما ذكروه
المسألة الثانية لفظة إن كان كذا تفيد الشك فقوله سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا معناه ستجدني صابراً إن شاء الله كوني صابراً وهذا يقتضي وقوع الشك في أن الله هل يريد كونه صابراً أم لا ولا شك أن الصبر في مقام التوقف واجب فهذا يقتضي أن الله تعالى قد لا يريد من العبد ما أوجبه عليه وهذا يدل على صحة قولنا إن الله تعالى قد يأمر بالشيء مع أنه لا يريده قالت المعتزلة هذه الكلمة إنما تذكر رعاية للأدب فيما يريد الإنسان أن يفعله في المستقبل فيقال لهم هذا الأدب إن صح معناه فقد ثبت المطلوب وإن فسد فأي أدب في ذكر هذا الكلام الباطل
المسألة الثالثة قوله تعالى وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً يدل على أن ظاهر الأمر يفيد الوجوب لأن تارك المأمور به عاص بدلالة هذه الآية والعاصي يستحق العقاب لقوله تعالى وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ ( الجن ٢٣ ) وهذا يدل على أن ظاهر الأمر يفيد الوجوب
المسألة الرابعة قول الخضر لموسى عليه السلام وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً نسبة إلى قلة العلم والخبر وقول موسى له سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً تواضع شديد وإظهار للتحمل التام والتواضع الشديد وكل ذلك يدل على أن الواجب على المتعلم إظهار التواضع بأقصى الغايات وأما المعلم فإن رأى أن في التغليظ على المتعلم ما يفيده نفعاً وإرشاداً إلى الخير فالواجب عليه ذكره فإن السكوت عنه يوقع المتعلم في الغرور والنخوة وذلك يمنعه من التعلم ثم قال فَإِنِ اتَّبَعْتَنِى فَلاَ تَسْأَلْنى عَن شَىء حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً أي لا تستخبرني عما تراه مني مما لا تعلم وجهه حتى أكون أنا


الصفحة التالية
Icon