من سماء واحدة وهي سماء الدنيا قلنا إنما أطلق عليه لفظ الجمع لأن كل قطعة منها سماء كما يقال ثوب أخلاق وبرمة أعشار واعلم أن هذا التأويل يجوز حمل الرؤية على الإبصار ورابعها قول أبي مسلم الأصفهاني يجوز أن يراد بالفتق الإيجاد والإظهار كقوله فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الشورى ١١ ) وكقوله قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ الَّذِى فطَرَهُنَّ ( الأنبياء ٥٦ ) فأخبر عن الإيجاد بلفظ الفتق وعن الحال قبل الإيجاد بلفظ الرتق أقول وتحقيقه أن العدم نفي محض فليس فيه ذوات مميزة وأعيان متباينة بل كأنه أمر واحد متصل متشابه فإذا وجدت الحقائق فعند الوجود والتكون يتميز بعضها عن بعض وينفصل بعضها عن بعض فبهذا الطريق حسن جعل الرتق مجازاً عن العدم والفتق عن الوجود وخامسها أن الليل سابق على النهار لقوله تعالى وَءايَة ٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ ( يس ٣٧ ) وكانت السموات والأرض مظلمة أولاً ففتقهما الله تعالى بإظهار النهار المبصر فإن قيل فأي الأقاويل أليق بالظاهر قلنا الظاهر يقتضي أن السماء على ما هي عليه والأرض على ما هي عليه كانتا رتقاً ولا يجوز كونهما كذلك إلا وهما موجودان والرتق ضد الفتق فإذا كان الفتق هو المفارقة فالرتق يجب أن يكون هو الملازمة وبهذا الطريق صار الوجه الرابع والخامس مرجوحاً ويصير الوجه الأول أولى الوجوه ويتلوه الوجه الثاني وهو أن كل واحد منهما كان رتقاً ففتقهما بأن جعل كل واحد منهما سبعاً ويتلوه الثالث وهو أنهما كانا صلبين من غير فطور وفرج ففتقهما لينزل المطر من السماء ويظهر النبات على الأرض
المسألة السادسة دلالة هذه الوجوه على إثبات الصانع وعلى وحدانيته ظاهرة لأن أحداً لا يقدر على مثل ذلك والأقرب أنه سبحانه خلقهما رتقاً لما فيه من المصلحة للملائكة ثم لما أسكن الله الأرض أهلها جعلهما فتقاً لما فيه من منافع العباد
النوع الثاني من الدلائل قوله تعالى وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَى ْء حَى ّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) قوله وجعلنا لا يخلو إما أن يتعدى إلى واحد أو اثنين فإن تعدى إلى واحد فالمعنى خلقنا من الماء كل حيوان كقوله وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّة ٍ مّن مَّاء ( النور ٤٥ ) أو كأنما خلقناه من الماء لفرط احتياجه إليه وحبه له وقلة صبره عنه كقوله خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ( الأنبياء ٣٧ ) وإن تعدى إلى اثنين فالمعنى صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لا بد له منه ومن هذا نحو من في قوله عليه السلام ( ما أنا من دد ولا الدد مني ) وقرىء حياً وهو المفعول الثاني
المسألة الثانية لقائل أن يقول كيف قال وخلقنا من الماء كل حيوان وقد قال وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ( الحجر ٢٧ ) وجاء في الأخبار أن الله تعالى خلق الملائكة من النور وقال تعالى في حق عيسى عليه السلام وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَة ِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِى ( المائدة ١١٠ ) وقال في حق آدم خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ( آل عمران ٥٩ ) والجواب اللفظ وإن كان عاماً إلا أن القرينة المخصصة قائمة فإن الدليل لا بد وأن يكون مشاهداً محسوساً ليكون أقرب إلى المقصود وبهذا الطريق تخرج عنه الملائكة والجن وآدم وقصة عيسى عليهم السلام لأن الكفار لم يروا شيئاً من ذلك
المسألة الثالثة اختلف المفسرون فقال بعضهم المراد من قوله كُلَّ شَى ْء حَى ّ الحيوان فقط وقال آخرون بل يدخل فيه النبات والشجر لأنه من الماء صار نامياً وصار فيه الرطوبة والخضرة والنور والثمر وهذا


الصفحة التالية
Icon