أم بعيد لئلا يقدر أنه يتأخر كأنه تعالى أمره بأن ينذرهم بالجهاد الذي يوحى إليه أن يأتيه من بعد ولم يعرفه الوقت فلذلك أمره أن يقول إنه لا يعلم قربه أم بعده تبين بذلك أن السورة مكية وكان الأمر بالجهاد بعد الهجرة وثالثها أن ما يوعدون به من غلبة المسلمين عليهم كائن لا محالة ولا بد أن يلحقهم بذلك الذل والصغار وإن كنت لا أدري متى يكون وذلك لأن الله تعالى لم يطلعني عليه
أما قوله تعالى إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ فالمقصود منه الأمر بالإخلاص وترك النفاق لأنه تعالى إذا كان عالماً بالضمائر وجب على العاقل أن يبالغ في الإخلاص
أما قوله تعالى وَإِنْ أَدْرِى لَعَلَّهُ فِتْنَة ٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ففيه وجوه أحدها لعل تأخير العذاب عنكم وثانيها لعل إبهام الوقت الذي ينزل بكم العذاب فيه فتنة لكم أي بلية واختبار لكم ليرى صنعكم وهل تحدثون توبة ورجوعاً عن كفركم أم لا وثالثها قال الحسن لعل ما أنتم فيه من الدنيا بلية لكم والفتنة البلوى والاختبار ورابعها لعل تأخير الجهاد فتنة لكم إذا أنتم دمتم على كفركم لأن ما يؤدي إلى الضرر العظيم يكون فتنة وإنما قال لا أدري لتجويز أن يؤمنوا فلا يكون تبقيتهم فتنة بل ينكشف عن نعمة ورحمة وخامسها أن يكون المراد وإن أدرى لعل ما بينت وأعلمت وأوعدت فتنة لكم لأنه زيادة في عذابكم إن لم تؤمنوا لأن المعرض عن الإيمان مع البيان حالاً بعد حال يكون عذابه أشد وإذا متعه الله تعالى بالدنيا يكون ذلك كالحجة عليه
أما قوله تعالى قَالَ رَبّ احْكُم بِالْحَقّ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرىء قل رب أحكم بالحق على الإكتفاء بالكسرة ( ورب احكم ) على الضم ( وربي أحكم ) أفعل التفضيل ( وربي أحكم ) من الإحكام
المسألة الثانية رَبّ احْكُم بِالْحَقّ فيه وجوه أحدها أي ربي اقض بيني وبين قومي بالحق أي بالعذاب كأنه قال اقص بيني وبين من كذبني بالعذاب وقال قتادة أمره الله تعالى أن يقتدي بالأنبياء في هذه الدعوة وكانوا يقولون رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ ( الأعراف ٨٩ ) فلا جرم حكم الله تعالى عليهم بالقتل يوم بدر وثانيها افصل بيني وبينهم بما يظهر الحق للجميع وهو أن تنصرني عليهم
أما قوله تعالى وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ففيه وجهان أحدهما أي من الشرك والكفر وما تعراضون به دعوتي من الأباطيل والتكذيب كأنه سبحانه قال قل داعياً لي رَبّ احْكُم بِالْحَقّ وقل متوعداً للكفار وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ قرأ ابن عامر بالياء المنقوطة من تحت أي قل لأصحابك المؤمنين وربنا الرحمن المستعان على ما يصف الكفار من الأباطيل أي من العون على دفع أباطيلهم وثانيها كانوا يطمعون أن تكون لهم الشوكة والغلبة فكذب الله ظنونهم وخيب آمالهم ونصر رسوله ( ﷺ ) والمؤمنين وخذلهم قال القاضي إنما ختم الله هذه السورة بقوله قُل رَّبّ احْكُم بِالْحَقّ لأنه عليه السلام كان قد بلغ في البيان الغاية لهم وبلغوا النهاية في أذيته وتكذيبه فكان قصارى أمره تعالى بذلك تسلية له وتعريفاً أن المقصود مصلحتهم فإذا أبوا إلا التمادي في كفرهم فعليك بالانقطاع إلى ربك ليحكم بينك وبينهم بالحق إما بتعجيل العقاب بالجهاد أو بغيره وإما بتأخير ذلك فإن أمرهم وإن تأخر فما هو كائن قريب وما روي أنه عليه السلام كان يقول ذلك في حروبه كالدلالة على أنه تعالى أمره أن يقول هذا القول


الصفحة التالية
Icon