أما قوله فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ فهو صفة أهل الجنة إذا دخلوها واعلم أنه سبحانه قد بين أن بعد النفخ في الصور تكون المحاسبة وشرح أحوال السعداء والأشقياء وقيل لما بين سبحانه أنه ليس في الآخرة إلا ثقل الموازين وخفتها وجب أن يكون كل مكلف لا بد وأن يكون من أهل الجنة وأهل الفلاح أو من أهل النار فيبطل بذلك القول بأن فيهم من لا يستحق الثواب والعقاب أو من يتساوى له الثواب والعقاب ثم إنه سبحانه شرح حال السعداء بقوله فَمَن ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( المؤمنون ١٠٢ ) وفي الموازين أقوال أحدها أنه استعارة من العدل وثانيها أن الموازين هي الأعمال الحسنة فمن أتي بما له قدر وخطر فهو الفائز الظافر ومن أتى بما لا وزن له كقوله تعالى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَة ٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْانُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ( النور ٣٩ ) فهو خالد في جهنم قال ابن عباس رضي الله عنهما الموازين جمع موزون وهي الموزونات من الأعمال أي الصالحات التي لها وزن وقدر عند الله تعالى من قوله فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَزْناً ( الكهف ١٠٥ ) أي قدراً وثالثها أنه ميزان له لسان وكفتان يوزن فيه الحسنات في أحسن صورة والسيئات في أقبح صورة فمن ثقلت حسناته سيق إلى الجنة ومن ثقلت سيئاته فإلى النار وتمام الكلام في هذا الباب قد تقدم في سورة الأنبياء عليهم السلام وأما الأشقياء فقد وصفهم الله تعالى بأمور أربعة أحدها أنهم خسروا أنفسهم قال ابن عباس رضي الله عنهما غبنوها بأن صارت منازلهم للمؤمنين وقيل امتنع انتفاعهم بأنفسهم لكونهم في العذاب وثانيها قوله فِى جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ودلالته على خلود الكفار في النار بينة قال صاحب ( الكشاف ) فِى جَهَنَّمَ خَالِدُونَ بدل من خسروا أنفسهم أو خبر بعد خبر لأولئك أو خبر مبتدأ محذوف وثالثها قوله تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ قال ابن عباس رضي الله عنهما أي تضرب وتأكل لحومهم وجلودهم قال الزجاج اللفح والنفخ واحد إلا أن اللفح أشد تأثيراً ورابعها قوله وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ والكلوح أن تتقلص الشفتان ويتباعدا عن الأسنان كما ترى الرؤوس المشوية وعن النبي ( ﷺ ) أنه قال ( تشويه النار فتتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته ) وقرىء ( كلحون ) ثم إنه سبحانه لما شرح عذابهم حكى ما يقال لهم عند ذلك تقريعاً وتوبيخاً وهو قوله تعالى أَلَمْ تَكُنْ ءايَاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ ثم إنكم كنتم تكذبون بها مع وضوحها فلا جرم صرتم مستحقين لما أنتم فيه من العذاب الأليم قالت المعتزلة الآية تدل على أنهم إنما وقعوا في ذلك العذاب لسوء أفعالهم ولو كان فعل العباد بخلق الله تعالى لما صح ذلك والجواب أن القادر على الطاعة والمعصية إن صدرت المعصية عنه لا لمرجح ألبتة كان صدورها عنه اتفاقياً لا اختيارياً فوجب أن لا يستحق العقاب وإن كان لمرجح فذاك المرجح ليس من فعله وإلا لزم التسلسل فحينئذ يكون صدور تلك الطاعة عند اضطرارياً لا اختيارياً فوجب أن لا يستحق الثواب
قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّى جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُواْ أَنَّهُمْ هُمُ الْفَآئِزُونَ


الصفحة التالية
Icon