وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودُ الْجِبَالَ يُسَبّحْنَ والمعنى أن هذه الأجسام لما كانت قابلة لجميع الأعراض التي يحدثها الله تعالى فيها من غير امتناع ألبتة أشبهت الطاعة والانقياد وهو السجود فإن قيل هذا التأويل يبطله قوله وَكَثِيرٌ مّنَ النَّاسِ فإن السجود بالمعنى الذي ذكرته عام في كل الناس فإسناده إلى كثير منهم يكون تخصيصاً من غير فائدة والجواب من وجوه أحدها أن السجود بالمعنى الذي ذكرناه وإن كان عاماً في حق الكل إلا أن بعضهم تمرد وتكبر وترك السجود في الظاهر فهذا الشخص وإن كان ساجداً بذاته لكنه متمرد بظاهره أما المؤمن فإنه ساجد بذاته وبظاهره فلأجل هذا الفرق حصل التخصيص بالذكر وثانيها أن نقطع قوله وَكَثِيرٌ مّنَ النَّاسِ عما قبله ثم فيه ثلاثة أوجه الأول أن نقول تقدير الآية ولله يسجد من في السموات ومن في الأرض ويسجد له كثير من الناس فيكون السجود الأول بمعنى الانقياد والثاني بمعنى الطاعة والعبادة وإنما فعلنا ذلك لأنه قامت الدلالة على أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في معنييه جميعاً الثاني أن يكون قوله وَكَثِيرٌ مّنَ النَّاسِ مبتدأ وخبره محذوف وهو مثاب لأن خبر مقابله يدل عليه وهو قوله حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ والثالث أن يبالغ في تكثير المحقوقين بالعذاب فيعطف كثير على كثير ثم يخبر عنهم بحق عليهم العذاب كأنه قيل وكثير من الناس وكثير حق عليهم العذاب وثالثها أن من يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه جميعاً يقول المراد بالسجود في حق الأحياء العقلاء العبادة وفي حق الجمادات الانقياد ومن ينكر ذلك يقول إن الله تعالى تكلم بهذه اللفظة مرتين فعنى بها في حق العقلاء الطاعة وفي حق الجمادات الانقياد
السؤال الثالث قوله وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ الاْرْضِ ( الرعد ١٥ ) لفظه لفظ العموم فيدخل فيه الناس فلم قال مرة أخرى وَكَثِيرٌ مّنَ النَّاسِ الجواب لو اقتصر على ما تقدم لأوهم أن كل الناس يسجدون كما أن كل الملائكة يسجدون فبين أن كثيراً منهم يسجدون طوعاً دون كثير منهم فإنه يمتنع عن ذلك وهم الذين حق عليهم العذاب القول الثاني في تفسير السجود أن كل ما سوى الله تعالى فهو ممكن لذاته والممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه إلا عند الانتهاء إلى الواجب لذاته كما قال وَأَنَّ إِلَى رَبّكَ الْمُنتَهَى ( النجم ٤٢ ) وكما أن الإمكان لازم للممكن حال حدوثه وبقائه فافتقاره إلى الواجب حاصل حال حدوثه وحال بقائه وهذا الافتقار الذاتي اللازم للماهية أدل على الخضوع والتواضع من وضع الجبهة على الأرض فإن ذلك علامة وضعية للافتقار الذاتي قد يتطرق إليها الصدق والكذب أما نفس الافتقار الذاتي فإنه ممتنع التغير والتبدل فجميع الممكنات ساجدة بهذا المعنى لله تعالى أي خاضعة متذللة معترفة بالفاقة إليه والحاجة إلى تخليفه وتكوينه وعلى هذا تأولوا قوله وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ( الإسراء ٤٤ ) وهذا قول القفال رحمه الله القول الثالث أن سجود هذه الأشياء سجود ظلها كقوله تعالى يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ ( النحل ٤٨ ) وهو قول مجاهد
وأما قوله كَثِيرٍ مّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ فقال ابن عباس في رواية عطاء وكثير من الناس يوحده وكثير حق عليه العذاب ممن لا يوحده وروى عنه أيضاً أنه قال وكثير من الناس في الجنة وهذه الرواية تؤكد ما ذكرنا أن قوله وَكَثِيرٌ مّنَ النَّاسِ مبتدأ وخبره محذوف وقال آخرون الوقف على قوله وَكَثِيرٌ مّنَ النَّاسِ ثم استأنف فقال وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ أي وجب بإبائه وامتناعه من السجود
وأما قوله تعالى وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ فالمعنى أن الذين حق عليهم العذاب ليس لهم أحد يقدر على إزالة ذلك الهوان عنهم فيكون مكرماً لهم ثم بين بقوله إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء أنه الذي يصح منه الإكرام والهوان يوم القيامة بالثواب والعقاب والله أعلم
هَاذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِى رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ
القراءة روي عن الكسائي خَصْمَانِ بكسر الخاء وقرىء قُطّعَتْ بالتخفيف كان الله يقدر لهم نيراناً على مقادير جثثهم تشتمل عليهم كما تقطع الثياب الملبوسة قرأ الأعمش كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمّ رُدُّواْ فِيهَا الحسن يُصْهَرُ بتشديد الهاء للمبالغة وقرىء وَلُؤْلُؤاً بالنصب على تقدير ويؤتون لؤلؤاً كقوله وحوراً عيناً ولؤلؤاً بقلب الهمزة الثانية واواً واعلم أنه سبحانه لما بين أن الناس قسمان منهم من يسجد لله ومنهم من حق عليه العذاب ذكر ههنا كيفية اختصامهم وفيه مسائل


الصفحة التالية
Icon