الشبهة الثانية قولهم وَلَوْ شَاء اللَّهُ لاَنزَلَ مَلَائِكَة ً وشرحه أن الله تعالى لو شاء إرشاد البشر لوجب أن يسلك الطريق الذي يكون أشد إفضاء إلى المقصود ومعلوم أن بعثة الملائكة أشد إفضاء إلى هذا المقصود من بعثة البشر لأن الملائكة لعلو شأنهم وشدة سطوتهم وكثرة علومهم فالخلق ينقادون إليهم ولا يشكون في رسالتهم فلما لم يفعل ذلك علمنا أنه ما أرسل رسولاً ألبتة
الشبهة الثالثة قولهم مَا هَاذَا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُرِيدُ وقوله بهذا إشارة إلى نوح عليه السلام أو إلى ما كلمهم به من الحث على عبادة الله تعالى أي ما سمعنا بمثل هذا الكلام أو بمثل هذا الذي يدعى وهو بشر أنه رسول الله وشرح هذه الشبهة أنهم كانوا أقواماً لا يعولون في شيء من مذاهبهم إلا على التقليد والرجوع إلى قول الآباء فلما لم يجدوا في نبوة نوح عليه السلام هذه الطريقة حكموا بفسادها قال القاضي يحتمل أن يريدوا بذلك كونه رسولاً مبعوثاً لأنه لا يمتنع فيما تقدم من زمان آبائهم أنه كان زمان فترة ويحتمل أن يريدوا بذلك دعاءهم إلى عبادة الله تعالى وحده لأن آباءهم كانوا على عبادة الأوثان
الشبهة الرابعة قولهم إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّة ٌ والجنة الجنون أو الجن فإن جهال العوام يقولون في المجنون زال عقله بعمل الجن وهذه الشبهة من باب الترويج على العوام فإنه عليه الصلاة والسلام كان يفعل أفعالاً على خلاف عاداتهم فأولئك الرؤساء كانوا يقولون للعوام إنه مجنون ومن كان مجنوناً فكيف يجوز أن يكون رسولاً
الشبهة الخامسة قولهم فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حَتَّى حِينٍ وهذا يحتمل أن يكون متعلقاً بما قبله أي أنه مجنون فاصبروا إلى زمان حتى يظهر عاقبة أمره فإن أفاق وإلا قتلتموه ويحتمل أن يكون كلاماً مستأنفاً وهو أن يقولوا لقومهم اصبروا فإنه إن كان نبياً حقاً فالله ينصره ويقوي أمره فنحن حينئذ نتبعه وإن كان كاذباً فالله يخذله ويبطل أمره فحينئذ نستريح منه فهذه مجموع الشبه التي حكاها الله تعالى عنهم واعلم أنه سبحانه ما ذكر الجواب عنها لركاكتها ووضوح فسادها وذلك لأن كل عاقل يعلم أن الرسول لا يصير رسولاً إلا لأنه من جنس الملك وإنما يصير كذلك بأن يتميز من غيره بالمعجزات فسواء كان من جنس الملك أو من جنس البشر فعند ظهور المعجز عليه يجب أن يكون رسولاً بل جعل الرسول من جملة البشر أولى لما مر بيانه في السور المتقدمة وهو أن الجنسية مظنة الألفة والمؤانسة وأما قولهم يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ فإن أرادوا به إرادته لإظهار فضله حتى يلزمهم الانقياد لطاعته فهذا واجب على الرسول وأن إرادوا به أن يرتفع عليهم على سبيل التجبر والتكبر والانقياد فالأنبياء منزهون عن ذلك وأما قولهم ما سمعنا بهذا فهو استدلال بعدم التقليد على عدم وجود الشيء وهو في غاية السقوط لأن وجود التقليد لا يدل على وجود الشيء فعدمه من أين يدل على عدمه وأما قولهم به جنة فقد كذبوا لأنهم كانوا يعلمون بالضرورة كمال عقله وأما قولهم فتربصوا به فضعيف لأنه إن ظهرت الدلالة على نبوته وهي المعجزة وجب عليهم قبول قوله في الحال ولا يجوز توقيف ذلك إلى ظهور دولته لأن الدولة لا تدل على الحقية وإن لم يظهر المعجز لم يجز قبول قوله سواء ظهرت الدولة أو لم تظهر ولما كانت هذه الأجوبة في نهاية الظهور لا جرم تركها الله سبحانه
قَالَ رَبِّ انصُرْنِى بِمَا كَذَّبُونِ فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِى مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ إِنَّ فِى ذالِكَ لأَيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ


الصفحة التالية
Icon