أما قوله تعالى وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودُ فقد اختلفوا فيه فقال الحسن المال لأن النبوة عطية مبتدأة ولا تورث وقال غيره بل النبوة وقال آخرون بل الملك والسياسة ولو تأمل الحسن لعلم أن المال إذا ورثه الولد فهو أيضاً عطية مبتدأة من الله تعالى ولذلك يرث الولد إذا كان مؤمناً ولا يرث إذا كان كافراً أو قاتلاً لكن الله تعالى جعل سبب الإرث فيمن يرث الموت على شرائط وليس كذلك النبوة لأن الموت لا يكون سبباً لنبوة الولد فمن هذا الوجه يفترقان وذلك لا يمنع من أن يوصف بأنه ورث النبوة لما قام به عند موته كما يرث الولد المال إذا قام به عند موته ومما يبين ما قلناه أنه تعالى لو فصل فقال وورث سليمان داود ماله لم يكن لقوله وَقَالَ يأَبَتِ أَيُّهَا النَّاسُ عُلّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ معنى وإذا قلنا وورث مقامه من النبوة والملك حسن ذلك لأن تعليم منطق الطير يكون داخلاً في جملة ما ورثه وكذلك قوله تعالى وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَى ْء لأن وارث الملك يجمع ذلك ووارث المال لا يجمعه وقوله إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ لا يليق أيضاً إلا بما ذكرنا دون المال الذي قد يحصل للكامل والناقص وما ذكره الله تعالى من جنود سليمان بعده لا يليق إلا بما ذكرناه فبطل بما ذكرنا قول من زعم أنه لم يرث إلا المال فأما إذا قيل ورث المال والملك معاً فهذا لا يبطل بالوجوه التي ذكرناها بل بظاهر قوله عليه السلام ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث )
فأما قوله يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ فالمقصود منه تشهير نعمة الله تعالى والتنويه بها ودعاء الناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير قال صاحب ( الكشاف ) المنطق كل ما يصوّت به من المفرد والمؤلف المفيد وغير المفيد وقد ترجم يعقوب كتابه ( بإصلاح المنطق ) وما أصلح فيه إلا مفردات الكلم وقالت العرب نطقت الحمامة ( وكل صنف من ) الطير يتفاهم أصواته فالذي علم سليمان عليه السلام من منطق الطير هو ما يفهم بعضه من بعض من مقاصده وأغراضه
أما قوله تعالى وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَى ْء فالمراد كثرة ما أوتي وذلك لأن الكل والبعض الكثير يشتركان في صفة الكثرة والمشاركة سبب لجواز الاستعارة فلا جرم يطلق لفظ الكل على الكثير ومثله قوله وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَى ْء ( النمل ٢٣ )
أما قوله إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ فهو تقرير لقوله الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى فَضَّلَنَا والمقصود منه الشكر والمحمدة كما قال عليه السلام ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر ) فإن قيل كيف قال عَلِمْنَا وَأُوتِينَا وهو من كلام المتكبرين جوابه من وجهين الأول أن يريد نفسه وأباه والثاني أن هذه النون يقال لها نون الواحد المطاع وكان ملكاً مطاعاً وقد يتعلق بتعظيم الملك مصالح فيصير ذلك التعظيم واجباً
وأما قوله وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنّ وَالإِنْس وَالطَّيْرِ فالحشر هو الإحضار والجمع من الأماكن المختلفة والمعنى أنه جعل الله تعالى كل هذه الأصناف جنوده ولا يكون كذلك إلا بأن يتصرف على مراده ولا يكون كذلك إلا مع العقل الذي يصح معه التكليف أو يكون بمنزلة المراهق الذي قد قارب حد التكليف فلذلك قلنا إن الله تعالى جعل الطير في أيامه مما له عقل وليس كذلك حال الطيور في أيامنا وإن كان فيها ما قد ألهمه الله تعالى الدقائق التي خصت بالحاجة إليها أو خصها الله بها لمنافع العباد كالنحل وغيره


الصفحة التالية
Icon