إلى وجه الأرض ولم تبلغ من قوتها وكثرة مادتها أن يطرد تاليها سابقها الثالث مياه القنى والأنهار وهي متولدة من أبخرة ناقصة القوة على أن تشق الأرض فإذا أزيل عن وجهها ثقل التراب صادفت حينئذ تلك الأبخرة منفذاً تندفع إليه بأدنى حركة الرابع مياه الآبار وهي نبعية كمياه الأنهار إلا أنه لم يجعل له سيل إلى موضع يسيل إليه ونسبة القنى إلى الآبار نسبة العيون الراكدة فقد ظهر أنه لولا صلابة الأرض لما اجتمعت تلك الأبخرة في باطنها إذ لولا اجتماعها في باطنها لما حدثت هذه العيون في ظاهرها
المنفعة الثالثة للأرض قوله وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِى َ والمراد منها الجبال فنقول أكثر العيون والسحب والمعدنيات إنما تكون في الجبال أو فيما يقرب منها أما العيون فلأن الأرض إذا كانت رخوة نشفت الأبخرة عنها فلا يجتمع منها قدر يعتد به فإذن هذه الأبخرة لا تجتمع إلا في الأرض الصلبة والجبال أصلب الأرض فلا جرم كانت أقواها على حبس هذا البخار حتى يجتمع ما يصلح أن يكون مادة للعيون ويشبه أن يكون مستقر الجبل مملوءاً ماء ويكون الجبل في حقنه الأبخرة مثل الأنبيق الصلب المعد للتقطير لا يدع شيئاً من البخار يتحلل ونفس الأرض التي تحته كالقرعة والعيون كالأذناب والبخار كالقوابل ولذلك فإن أكثر العيون إنما تنفجر من الجبال وأقلها في البراري وذلك الأقل لا يكون إلا إذا كانت الأرض صلبة وأما أن أكثر السحب تكون في الجبال فلوجوه ثلاثة أحدها أن في باطن الجبال من النداوات مالا يكون في باطن الأرضين الرخوة وثانيها أن الجبال بسبب ارتفاعها أبرد فلا جرم يبقى على ظاهرها من الأنداء ومن الثلوج ما لا يبقى على ظهر سائر الأرضين وثالثها أن الأبخرة الصاعدة تكون محبوسة بالجبال فلا تتفرق ولا تتحلل وإذا ثبت ذلك ظهر أن أسباب كثرة السحب في الجبال أكثر لأن المادة فيها ظاهراً وباطناً أكثر والاحتقان أشد السبب المحلل وهو الحر أقل فلذلك كانت السحب في الجبال أكثر وأما المعدنيات المحتاجة إلى أبخرة يكون اختلاطها بالأرضية أكثر وإلى بقاء مدة طويلة يتم النضج فيها فلا شيء لها في هذا المعنى كالجبال
المنفعة الرابعة للأرض قوله وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً فالمقصود منه أن لا يفسد العذب بالاختلاط وأيضاً فلينتفع بذلك الحاجز وأيضاً المؤمن في قلبه بحران بحر الإيمان والحكمة وبحر الطغيان والشهوة وهو بتوفيقه جعل بينهما حاجزاً لكي لا يفسد أحدهما بالآخر وقال بعض الحكماء في قوله مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ ( الرحمن ١٩ ٢٠ ) قال عند عدم البغي يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ ( الرحمن ٢٢ ) فعند عدم البغي في القلب يخرج الدين والإيمان بالشكر فإن قيل ولم جعل البحر ملحاً قلنا لولا ملوحته لأجن وانتشر فساد أجونته في الأرض وأحدث الوباء العام واعلم أن اختصاص البحر بجانب من الأرض دون جانب أمر غير واجب بل الحق أن البحر ينتقل في مدد لا تضبطها التواريخ المنقولة من قرن إلى قرن لأن استمداد البحر في الأكثر من الأنهار والأنهار تستمد في الأكثر من العيون وأما مياه السماء فإن حدوثها في فصل بعينه دون فصل ثم لا العيون ولا مياه السماء يجب أن تتشابه أحوالها في بقاع واحدة بأعيانها تشابهاً مستمراً فإن كثيراً من العيون يغور وكثيراً ما تقحط السماء فلا بد حينئذ من نضوب الأودية والأنهار فيعرض بسبب ذلك نضوب البحار وإذا حدثت العيون من جانب آخر حدثت


الصفحة التالية
Icon