لأنه يستحيل أن تكون الصفة معلومة بالضرورة والذات معلومة بالنظر ولو علم موسى أنه الله تعالى بالضرورة لزال التكليف ويحتمل أن يقال إنه تعالى لما أسمعه الكلام الذي ليس بحرف ولا صوت عرف أن مثل ذلك الكلام لا يمكن أن يكون كلام الخلق ويحتمل أن يقال إن ظهور الكلام من الشجرة كظهور التسبيح من الحصى في أنه يعلم أن مثل ذلك لا يكون إلا من الله تعالى ويحتمل أن يكون المعجز هو أنه رأى النار في الشجرة الرطبة فعلم أنه لا يقدر على الجمع بين النار وبين خضرة الشجرة إلا الله تعالى ويحتمل أن يصح ما يروى أن إبليس لما قال له كيف عرفت أنه نداء الله تعالى قال لأني سمعته بجميع أجزائي فلما وجد حس السمع من جميع الأجزاء علم أن ذلك مما لا يقدر عليه أحد سوى الله تعالى وهذا إنما يصح على مذهبنا حيث قلنا البنية ليست شرطاً
المسألة الثالثة قال في سورة النمل ( ٨ ) نُودِى َ أَن بُورِكَ مَن فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وقال ههنا يامُوسَى إِنّى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وقال في طه ( ١١ ١٢ ) نُودِى َ إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ ولا منافاة بين هذه الأشياء فهو تعالى ذكر الكل إلا أنه حكى في كل سورة بعض ما اشتمل عليه ذلك النداء
المسألة الرابعة قال الحسن إن موسى عليه السلام نودي نداء الوحي لا نداء الكلام والدليل عليه قوله تعالى فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى قال الجمهور إن الله تعالى كلمه من غير واسطة والدليل عليه قوله تعالى وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ( النساء ١٦٤ ) وسائر الآيات وأما الذي تمسك به الحسن فضعيف لأن قوله فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى لم يكن بالوحي لأنه لو كان ذلك أيضاً بالوحي لانتهى آخر الأمر إلى كلام يسمعه المكلف لا بالوحي وإلا لزم التسلسل بل المراد من قوله فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى وصيته بأن يتشدد في الأمور التي تصل إليه في مستقبل الزمان بالوحي
أما قوله وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقّبْ يامُوسَى مُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الاْمِنِينَ فقد تقدم تفسير كل ذلك وقوله كَأَنَّهَا جَانٌّ صريح في أنه تعالى شبهها بالجان ولم يقل إنه في نفسه جان فلا يكون هذا مناقضاً لكونه ثعباناً بل شبهها بالجان من حيث الاهتزاز والحركة لا من حيث المقدار وقد تقدم الكلام في خوفه ومعنى وَلَمْ يُعَقّبْ لم يرجع يقال عقب المقاتل إذا كر بعد الفر وقال وهب إنها لم تدع شجرة ولا صخرة إلا ابتلعتها حتى سمع موسى عليه السلام صرير أسنانها وسمع قعقعة الصخر في جوفها فحينئذ ولى واختلفوا في العصا على وجوه أحدها قالوا إن شعيباً كانت عنده عصي الأنبياء عليهم السلام فقال لموسى بالليل إذا دخلت ذلك البيت فخذ عصا من تلك العصي فأخذ عصا هبط بها آدم عليه السلام من الجنة ولم تزل الأنبياء تتوارثها حتى وقعت إلى شعيب عليه السلام فقال أرني العصا فلمسها وكان مكفوفاً فضن بها فقال خذ غيرها فما وقع في يده إلا هي سبع مرات فعلم أن له معها شأناً وروي أيضاً أن شعيباً عليه السلام أمر ابنته أن تأتي بعصا لأجل موسى عليه السلام فدخلت البيت وأخذت العصا وأتته بها فلما رآها الشيخ قال ائتيه بغيرها فألقتها وأرادت أن تأخذ غيرها فلم يقع في يدها غيرها فلما رأى الشيخ ذلك رضي به ثم ندم بعد ذلك وخرج يطلب موسى عليه السلام فلما لقيه قال أعطني العصا قال موسى هي عصاي فأبى أن يعطيه إياها فاختصما ثم توافقا على أن يجعلا بينهما أول رجل يلقاهما فأتاهما ملك يمشي فقضى بينهما فقال ضعوها على الأرض فمن حملها فهي له فعالجها الشيخ فلم


الصفحة التالية
Icon