وهكذا كان عليه السلام فإنه في أول الأمر بالغ في إيراد الدلائل والجواب عن الشبهات وتحمل ما كانوا يفعلونه من أنواع السفاهة وسوء الأدب الثالث أن هذا يدل على اعتراف القوم بأنهم لم يعترضوا ألبتة على دلائل الرسول ( ﷺ ) وما عارضوها إلا بمحض الجحود والتقليد لأن قولهم لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا إشارة إلى الجحود والتقليد ولو ذكروا اعتراضاً على دلائل الرسول عليه السلام لكان ذكر ذلك أولى من ذكر مجرد الجحود والإصرار الذي هو دأب الجهال وذلك يدل على أن القوم كانوا مقهورين تحت حجته عليه السلام وأنه ما كان في أيديهم إلا مجرد الوقاحة الرابع الآية تدل على أن القوم صاروا في ظهور حجته عليه السلام عليهم كالمجانين لأنهم استهزؤا به أولاً ثم وصفوه بأنه كاد يضلنا عن آلهتنا لولا أن قابلناه بالجحود والإصرار فهذا الكلام الأخير يدل على أن القوم سلموا له قوة الحجة وكمال العقل والكلام الأول وهو السخرية والاستهزاء لا يليق إلا بالجاهل العاجز فالقوم لما جمعوا بين هذين الكلامين دل ذلك على أنهم كانوا كالمتحيرين في أمره فتارة بالوقاحة يستهزئون منه وتارة يصفونه بما لا يليق إلا بالعالم الكامل ثم إنه سبحانه لما حكى عنهم هذا الكلام زيف طريقتهم في ذلك من ثلاثة أوجه أولها قوله وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً لأنهم لما وصفوه بالإضلال في قولهم إِن كَانَ بين تعالى أنه سيظهر لهم من المضل ومن الضال عند مشاهدة العذاب الذي لا مخلص لهم منه فهو وعيد شديد لهم على التعامي والإعراض عن الاستدلال والنظر وثانيها قوله تعالى سَبِيلاً أَرَءيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً والمعنى أنه سبحانه بين أن بلوغ هؤلاء في جهالتهم وإعراضهم عن الدلائل إنما كان لاستيلاء التقليد عليهم وأنهم اتخذوا أهواءهم آلهة فكل ما دعاهم الهوى إليه انقادوا له سواء منع الدليل منه أو لم يمنع ثم ههنا أبحاث
الأول قوله أَرَأَيْتَ كلمة تصلح للإعلام والسؤال وههنا هي تعجيب من جهل من هذا وصفه ونعته
الثاني قوله اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ معناه اتخذ إلهه ما يهواه أو إلهاً يهواه وقيل هو مقلوب ومعناه اتخذ هواه إلهه وهذا ضعيف لأن قوله اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ يفيد الحصر أي لم يتخذ لنفسه إلهاً إلا هواه وهذا المعنى لا يحصل عند القلب قال ابن عباس الهوى إله يعبد وقال سعيد بن جبير كان الرجل من المشركين يعبد الصنم فإذا رأى أحسن منه رماه واتخذ الآخر وعبده
الثالث قوله أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً أي حافظاً تحفظه من اتباع هواه أي لست كذلك
الرابع نظير هذه الآية قوله تعالى لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ ( الغاشية ٢٢ ) وقوله وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ( ق ٤٥ ) وقوله لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ ( البقرة ٢٥٦ ) قال الكلبي نسختها آية القتال وثالثها قوله أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ أم ههنا منقطعة معناه بل تحسب وذلك يدل على أن هذه المذمة أشد من التي تقدمتها حتى حقت بالإضراب عنها إليها وهي كونهم مسلوبي الأسماع والعقول لأنهم لشدة عنادهم لا يصغون إلى الكلام وإذا سمعوه لا يتفكرون فيه فكأنه ليس لهم عقل ولا سمع ألبتة فعند ذلك شبههم بالأنعام في عدم انتفاعهم بالكلام وعدم إقدامهم على التدبر والتفكر وإقبالهم على اللذات الحاضرة الحسية وإعراضهم عن طلب السعادات الباقية العقلية وها هنا سؤالات