القليل ثم إن ترك خلق هذا القسم إن كان لما فيه من الشر فترك الخير الكثير لأجل الشر القليل لا يناسب الحكمة ألا ترى أن التاجر إذا طلب منه درهم بدينار فلو امتنع وقال في هذا شر وهو زوال الدرهم عن ملكي فيقال له لكن في مقابلته خير كثير وهو حصول الدينار في ملكك وكذلك الإنسان لو ترك الحركة اليسيرة لما فيها من المشقة مع علمه بأنه تحصل له راحة مستمرة ينسب إلى مخالفة الحكمة فإذا نظر إلى الحكمة كان وقوع الخير الكثير المشوب بالشر القليل من اللطف فخلق العالم الذي يقع فيه الشر وإلى هذا أشار بقوله إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ ( البقرة ٣٠ ) فقال الله تعالى في جوابهم إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( البقرة ٣٠ ) أي أعلم أن هذا القسم يناسب الحكمة لأن الخير فيه كثير ثم بين لهم خيره بالتعليم كما قال تعالى وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا ( البقرة ٣١ ) يعني أيها الملائكة خلق الشر المحض والشر الغالب والشر المساوي لا يناسب الحكمة وأما الخير الكثير المشوب بالشر القليل مناسب فقوله تعالى أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا إشارة إلى الشر وأجابهم الله بما فيه من الخير بقوله وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء فإن قال قائل فالله تعالى قادر على تخليص هذا القسم من الشر بحيث لا يوجد فيه شر فيقال له ما قاله الله تعالى وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ( السجدة ١٣ ) يعني لو شئنا لخلصنا الخير من الشر لكن حينئذٍ لا يكون الله تعالى خلق الخير الكثير المشوب بالشر القليل وهو قسم معقول فما كان يجوز تركه للشر القليل وهو لا يناسب الحكمة لأن ترك الخير الكثير للشر القليل غير مناسب للحكمة وإن كان لا كذلك فلا مانع من خلقه فيخلقه لما فيه من الخير الكثير وهذا الكلام يعبر عنه من يقول برعاية المصالح إن الخير في القضاء والشر في القدر فالله قضى بالخير ووقع الشر في القدر بفعله المنزه عن القبح والجهل وقوله مِنَ الْجِنَّة ِ وَالنَّاسِ لأنه تعالى قال لإبليس لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ ( ص ٨٥ ) وهذا إشارة إلى أن النار لمن في العالم السفلي والذين في العالم العلوي مبرءون عن دخول النار وهم الملائكة وهذا يقتضي أن لا يكون إبليس من الملائكة وهو الصحيح وقوله أَجْمَعِينَ يحتمل وجهين أحدهما أن يكون تأكيداً وهو الظاهر والثاني أن يكون حالاً أي مجموعين فإن قيل كيف جعل جميع الإنس والجن مما يملأ بهم النار نقول هذا لبيان الجنس أي جهنم تملأ من الجن والإنس لا غير أمناً للملائكة ولا يقتضي ذلك دخول الكل كما يقول القائل ملأت الكيس من الدراهم لا يلزم أن لا يبقى درهم خارج الكيس فإن قيل فهذا يقتضي أن تكون جهنم ضيقة تمتلىء ببعض الخلق نقول هو كذلك وإنما الواسع الجنة التي هي من الرحمة الواسعة والله أعلم ولما بين الله تعالى بقوله وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا أنهم لا رجوع لهم قال لهم إذا علمتم أنكم لا رجوع لكم
فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَاذَآ إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
المسألة الأولى قوله فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء لقاء يحتمل أن يكون منصوباً بذوقوا أي ذوقوا لقاء يومكم


الصفحة التالية
Icon