الحفظ كالأواني من الجواهر التي تكون عزيزة سريعة الانكسار فإن العاقل يمتنع عن قبولها ولو كانت من الذهب والفضة لقبلها ولو كانت من الزجاج لقبلها في الأول لأمانه من هلاكها وفي الثاني لكونها غير عزيزة الوجود والتكليف كذلك والثاني أن يكون الوقت زمان شهب وغارة فلا يقبل العاقل في ذلك الوقت الودائع والأمر كان كذلك لأن الشيطان وجنوده كانوا في قصد المكلفين إذ الغرض كان بعد خروج آدم من الجنة الثالث مراعاة الأمانة والإتيان بما يجب كإيداع الحيوانات التي تحتاج إلى العلف والسقي وموضع مخصوص يكون برسمها فإن العاقل يمتنع من قبولها بخلاف متاع يوضع في صندوق أو في زاوية بيت والتكليف كذلك فإنه يحتاج إلى تربية وتنمية
المسألة السادسة كيف حملها الإنسان ولم تحملها هذه الأشياء فيه جوابان أحدهما بسبب جهله بما فيها وعلمهن ولهذا قال تعالى إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً والثاني أن الأشياء نظرت إلى أنفسهن فرأين ضعفهن فامتنعن والإنسان نظر إلى جانب المكلف وقال المودع عالم قادر لا يعرض الأمانة إلا على أهلها وإذا أودع لا يتركها بل يحفظها بعينه وعونه فقبلها وقال إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ( الفاتحة ٥ )
المسألة السابعة قوله تعالى إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً فيه وجوه أحدها أن المراد منه آدم ظلم نفسه بالمخالفة ولم يعلم ما يعاقب عليه من الإخراج من الجنة ثانيها المراد الإنسان يظلم بالعصيان ويجهل ما عليه من العقاب ثالثها إنه كان ظلوماً جهولا أي كان من شأنه الظلم والجهل يقال فرس شموس ودابة جموح وماء طهور أي من شأنه ذلك فكذلك الإنسان من شأنه الظلم والجهل فلما أودع الأمانة بقي بعضهم على ما كان عليه وبعضهم ترك الظلم كما قال تعالى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ( الأنعام ٨٢ ) وترك الجهل كما قال تعالى في حق آدم عليه السلام وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا ( البقرة ٣١ ) وقال في حق المؤمنين عامة وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ ( آل عمران ٧ ) وقال تعالى إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ( فاطر ٢٨ ) رابعها إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً في ظن الملائكة حيث قالوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ( البقرة ٣٠ ) وبين علمه عندهم حيث قال تعالى أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء ( البقرة ٣١ ) وقال بعضهم في تفسير الآية إن المخلوق على قسمين مدرك وغير مدرك والمدرك منه من يدرك الكلي والجزئي مثل الآدمي ومنه من يدرك الجزئي كالبهائم ثم تدرك الشعير الذي تأكله ولا تتفكر في عواقب الأمور ولا تنظر في الدلائل والبراهين ومنه من يدرك الكلي ولا يدرك الجزئي كالملك يدرك الكليات ولا يدرك لذة الجماع والأكل قالوا وإلى هذا أشار الله تعالى بقوله ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَة ِ فَقَالَ أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء ( البقرة ٣١ ) فاعترفوا بعدم علمهم بتلك الجزئيات والتكليف لم يكن إلا على مدرك الأمرين إذ له لذات بأمور جزئية فمنع منها لتحصيل لذات حقيقية هي مثل لذة الملائكة بعبادة الله ومعرفته وأما غيره فإن كان مكلفاً يكون مكلفاً لا بمعنى الأمر بما فيه عليهم كلفة ومشقة بل بمعنى الخطاب فإن المخاطب يسمى مكلفاً لما أن المكلف مخاطب فسمي المخاطب مكلفاً وفي الآية لطائف الأولى الأمانة كان عرضها على آدم فقبلها فكان أميناً عليها والقول قول الأمين فهو فائز بقي أولاده أخذوا الأمانة منه والآخذ من الأمين ليس بمؤتمن ولهذا وارث المودع لا يكون القول قوله ولم يكن له بد من تجديد عهد وائتمان فالمؤمن اتخذ عند الله عهداً فصار أميناً من الله فصار القول قوله فكان له ما كان لآدم من الفوز ولهذا قال تعالى وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ( الأحزاب ٧٣ ) أي كما تاب على آدم في قوله تعالى فَتَابَ عَلَيْهِ ( البقرة ٣٧ ) والكافر صار آخذاً


الصفحة التالية
Icon