هذا فيه تقرير الرسالة أيضاً وذلك لأن الله تعالى قال على سبيل العموم مَّنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ ( الزمر ٤١ ) وقال في حق النبي ( ﷺ ) وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِى إِلَى َّ رَبّى يعني ضلالي على نفسي كضلالكم وأما اهتدائي فليس بالنظر والاستدلال كاهتدائكم وإنما هو بالوحي المبين وقوله إِنَّهُ سَمِيعٌ أي يسمع إذا ناديته واستعديت به عليكم قريب يأتيكم من غير تأخير ليس يسمع عن بعد ولا يلحق الداعي
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ
لما قال سَمِيعُ قال هو قريب فإن لم يعذب عاجلاً ولا يعين صاحب الحق في الحال فيوم الفزع آت لا فوت وإنما يستعجل من يخاف الفوت وقوله وَلَوْ تَرَى جوابه محذوف أي ترى عجباً وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ لا يهربون وإنما الأخذ قبل تمكنهم من الهرب
وَقَالُوا ءَامَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ
أي بعد ظهور الأمر حيث لا ينفع إيمان قالوا آمنا وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ أي كيف يقدرون على الظفر بالمطلوب وذلك لا يكون إلا في الدنيا وهم في الآخرة والدنيا من الآخرة بعيدة فإن قيل فكيف قال كثير من المواضع إن الآخرة من الدنيا قريبة ولهذا سماها الله الساعة وقال لَعَلَّ السَّاعَة َ قَرِيبٌ ( الشورى ١٧ ) نقول الماضي كالأمس الدابر بعدما يكون إذ لا وصول إليه والمستقبل وإن كان بينه وبين الحاضر سنين فإنه آت فيوم القيامة الدنيا بعيدة لمضيها وفي الدنيا يوم القيامة قريب لإتيانه والتناوش هو التناول عن قرب وقيل عن بعد ولما جعل الله الفعل مأخوذاً كالجسم جعل ظرف الفعل وهو الزمان كظرف الجسم وهو المكان فقال مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ والمراد ما مضى من الدنيا
وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ
ثم بين الله تعالى أن إيمانهم لا نفع فيه بسبب أنهم كفروا به من قبل والإشارة في قوله بِهِ إِنَّهُ وقوله وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ إلى شيء واحد إما محمد عليه الصلاة والسلام وإما القرآن وإما الحق الذي أتى به محمد عليه السلام وهو أقرب وأولى وقوله وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ ضد يؤمنون بالغيب لأن الغيب ينزل من الله على لسان الرسول فيقذفه الله في القلوب ويقبله المؤمن وأما الكافر فهو يقذف بالغيب أي يقول ما لا يعلمه وقوله مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ يحتمل أن يكون المراد منه أن مأخذهم بعيد أخذوا الشريك من أنهم لا يقدرون على أعمال كثيرة إلا إذا كانوا أشخاصاً كثيرة فكذلك المخلوقات الكثيرة وأخذوا بعد الإعادة من حالهم وعجزهم عن الإحياء فإن المريض يداوى فإذا مات لا يمكنهم إعادة الروح إليه وقياس الله على المخلوقات بعيد المأخذ ويحتمل أن يقال إنهم كانوا يقولون بأن الساعة إذا كانت قائمة فالثواب والنعيم لنا كقول قائلهم وَلَئِن رُّجّعْتُ إِلَى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى ( فصلت ٥٠ ) فكانوا يقولون ذلك فإن كان من قول الرسول فما


الصفحة التالية
Icon