المسألة الثانية في حكمة افتتاح هذه السورة بحروف من التهجي ولنقدم عليه كلاماً كلياً في افتتاح السور بالحروف فنقول الحكيم إذا خاطب من يكون محل الغفلة أو من يكون مشغول البال بشغل من الأشغال يقدم على الكلام المقصود شيئاً غيره ليلتفت المخاطب بسببه إليه ويقبل بقلبه عليه ثم يشرع في المقصود إذا ثبت هذا فنقول ذلك المقدم على المقصود قد يكون كلاماً له معنى مفعوم كقول القائل اسمع واجعل بالك إلى وكن لي وقد يكون شيئاً هو في معنى الكلام المفهوم كقول القائل أزيد ويازيد وألا يازيد وقد يكون ذلك المقدم على المقصود صوتاً غير مفهوم كمن يصفر خلف إنسان ليلتفت إليه وقد يكون ذلك الصوت بغير الفم كما يصفق الإنسان بيديه ليقبل السامع عليه ثم إن موقع الغفلة كلما كان أتم والكلام المقصود كان أهم كان المقدم على المقصود أكثر ولهذا ينادي القريب بالهمزة فيقال أزيد والبعيد بيا فيقال يا زيد والغافل ينبه أولاً فيقال ألا يا زيد إذا ثبت هذا فنقول إن النبي ( ﷺ ) وإن كان يقظان الجنان لكنه إنسان يشغله شأن عن شأن فكان يحسن من الحكيم أن يقدم على الكلام المقصود حروفاً هي كالمنبهات ثم إن تلك الحروف إذا لم تكن بحيث يفهم معناها تكون أتم في إفادة المقصود الذي هو التنبيه من تقديم الحروف التي لها معنى لأن تقديم الحروف إذا كان لإقبال السامع على المتكلم لسماع ما بعد ذلك فإذا كان ذلك المقدم كلاماً منظوماً وقولا مفهوماً فإذا سمعه السامع ربما يظن أنه كل المقصود ولا كلام له بعد ذلك فيقطع الإلتفات عنه أما إذا سمع منه صوتاً بلا معنى يقبل عليه ولا يقطع نظره عنه ما لم يسمع غيره لجزمه بأن ما سمعه ليس هو المقصود فاذن تقديم الحروف التي لا معنى لها في الوضع على الكلام المقصود فيه حكمة بالغة فإن قال قائل فما الحكمة في اختصاص بعض السور بهذه الحروف فنقول عقل البشر عن إدراك الأشياء الجزئية على تفاصيلها عاجز والله أعلم بجميع الأشياء لكن نذكر ما يوفقنا الله له فنقول كل سورة في أوائلها حروف التهجي فإن في أوائلها ذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن كقوله تعالى الم ذالِكَ الْكِتَابُ ( البقرة ١ ٢ ) الم اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْحَى ُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ( آل عمران ١ ٣ ) المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ ( الأعراف ١ ٢ ) يس وَالْقُرْءانِ ( ي س ١ ٢ ) ص وَالْقُرْءانِ ( ص ١ ) ق وَالْقُرْءانِ ( ق ١ ) الم تَنزِيلُ الْكِتَابِ ( السجدة ١ ٢ ) حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ ( الجاثية ١ ٢ ) إلا ثلاث سور كهعيص ( مريم ١ ) الضَّالّينَ الم أَحَسِبَ النَّاسُ الم غُلِبَتِ الرُّومُ ( الروم ١ ٢ ) والحكمة في افتتاح السور التي فيها القرآن أو التنزيل أو الكتاب بالحروف هي أن القرآن عظيم والإنزال له ثقل والكتاب له عبء كما قال تعالى إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ( المزمل ٥ ) وكل سورة في أولها ذكر القرآن والكتاب والتنزيل قدم عليها منبه يوجب ثبات المخاطب لاستماعه لا يقال كل سورة قرآن واستماعه استماع القرآن سواء كان فيها ذكر القرآن لفظاً أو لم يكن فكان الواجب أن يكون في أوائل كل سورة منبه وأيضاً فقد وردت سورة فيها ذكر الإنزال والكتاب ولم يذكر قلبها حروف كقوله تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ( الكهف ١ ) وقوله سُورَة ٌ أَنزَلْنَاهَا ( النور ١ ) وقوله تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ ( الفرقان ١ ) وقوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ ( القدر ١ ) لأنا نقول جواباً عن الأول لا ريب في أن كل سورة من القرآن لكن السورة التي فيها ذكر القرآن والكتاب مع أنها من القرآن تنبه على كل القرآن فإن قوله تعالى طه مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ ( ط ١ ٢ ) مع أنها بعض القرآن فيها ذكر جميع القرآن فيصير مثاله مثال كتاب يرد من ملك على مملوكه فيه شغل ما وكتاب آخر يرد منه عليه فيه إنا كتبنا إليك كتباً إليك كتباً فيها أوامرنا فامتثلها لا شك


الصفحة التالية
Icon