على ذنبه ومنهم من قال إنها لا تدل عليه فمن قال بالأول كان وجه المناسبة فيه كأنه قيل لمحمد ( ﷺ ) إن حزنك ليس إلا لأن الكفار يكذبونك وأما حزن داود فكان بسبب وقوعه في ذلك الذنب ولا شك أن حزنه أشد فتأمل في قصة داود وما كان فيه من الحزن العظيم حتى يخف عليك ما أنت فيه من الحزن ومن قال بالثاني قال الخصمان لإيذائهما ولا دعا عليهما بسوء بل استغفر لهما على ما سيجيء تقرير هذه الطريقة فلا جرم أمر الله تعالى محمداً عليه السلام بأن يقتدي به في حسن الخلق والخامس أن قريشاً إنما كذبوا محمداً عليه السلام واستخفوا به لقولهم في أكثر الأمر إنه يتيم فقير ثم إنه تعالى قص على محمد كمال مملكة داود ثم بين أنه مع ذلك ما سلم من اوحزان والغموم ليعلم أن الخلاص عن الحزن لا سبيل إليه في الدنيا والسادس أن قوله تعالى اصْبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودُ غير مقتصر على داود فقط بل ذكر عقيب قصة داود قصص سائر الأنبياء فكأنه قال اصْبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ واعتبر بحال سائر الأنبياء ليعلمه أن كل واحد منهم كان مشغولاً بهم خاص وحزن خاص فحينئذٍ يعلم أن الدنيا لا تنفك عن الهموم والأحزان وأن استحقاق الدرجات العالية عند الله لا يحصل إلا بتحمل المشاق والمتاعب في الدنيا وهذه وجوه ذكرناها في هذا المقام وههنا وجه آخر أقوى وأحسن من كل ما تقدم وسيجيء ذكره إن شاء الله تعالى عند الانتهاء إلى تفسير قوله كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ( ص ٢٩ ) واعلم أنه تعالى ذكر بعد ذلك حال تسعة من الأنبياء فذكر حال ثلاثة منهم على التفصيل وحال ستة آخرين على الإجمال
فالقصة الأولى قصة داود واعلم أن مجامع ما ذكره الله تعالى في هذه القصة ثلاثة أنواع من الكلام فالأول تفصيل ما آتى الله داود من الصفات التي توجب سعادة الآخرة والدنيا والثاني شرح تلك الواقعة التي وقعت له من أمر الخصمين والثالث استخلاف الله تعالى إياه بعد وقوع تلك الواقعة أما النوع الأول وهو شرح الصفات التي آتاها الله داود من الصفات الموجبة لكمال السعادة فهي عشرة الأول قوله لمحمد ( ﷺ ) اصْبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودُ فأمر محمداً ( ﷺ ) على جلالة قدره بأن يقتدي في الصبر على طاعة الله بداود وذلك تشريف عظيم وإكرام لداود حيث أمر الله أفضل الخلق محمداً ( ﷺ ) بأن يقتدي به مكارم الأخلاق والثاني أنه قال في حقه عَبْدَنَا دَاوُودُ فوصفه بكونه عبداً له وعبر عن نفسه بصيغة الجمع الدالة على نهاية التعظيم وذلك غاية التشريف ألا ترى أنه سبحانه وتعالى لما أراد أن يشرف محمداً عليه السلام ليلة المعراج قال سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ ( الإسراء ١ ) فههنا يدل على ذلك التشريف لداود فكان ذلك دليلاً على علو درجته أيضاً فإن وصف الله تعالى الأنبياء بعبوديته مشعر بأنهم قد حققوا معنى العبوذية بسبب الاجتهاد في الطاعة والثالث قوله ذَا الاْيْدِ أي ذا القوة على أداء الطاعة والاحترازعن المعاصي وذلك لأنه تعالى لما مدحه بالقوة وجب أن تكون تلك القوة موجبة للمدح والقوة التي توجب المدح العظيم ليست إلا القوة على فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه والأيد المذكور ههنا كالقوة المذكورة في قوله وَعَشِيّاً يايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّة ٍ ( مريم ١٢ ) وقوله تعالى وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الاْلْوَاحِ مِن كُلّ شَى ْء مَّوْعِظَة ً وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَى ْء فَخُذْهَا بِقُوَّة ٍ ( الأعراف ١٤٥ ) أي باجتهاد في أداء الأمانة وتشدد في القيام بالدعوة وترك إظهار الوهن والضعف والأيد والقوة سواء ومنه قوله تعالى هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ ( الأنفال ٦٢ ) وقوله تعالى وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ( البقرة ٨٧ ) وقال وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا ( الذاريات ٤٧ ) وعن


الصفحة التالية
Icon