البحث الأول وفيه وجوه الأول أن الله سبحانه خلق في جسم الجبل حياة وعقلاً وقدرة ومنطقاً وحينئذٍ صار الجبل مسبحاً لله تعالى ونظيره قوله تعالى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ( الأعراف ١٤٣ ) فإن معناه أنه تعالى خلق في الجبل عقلاً وقدرة ومنطقاً وحينئذٍ صار الجبل مسبحاً ( ﷺ ) تعالى ونظيره قوله تعالى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ( الأعراف ١٤٣ ) فإن معناه أنه تعالى خلق في الجبل عقلاً وفهماً ثم خلق فيه رؤية الله تعالى فكذا ههنا الثاني في التأويل ما رواه القفال في تفسيره أنه يجوز أن يقال إن داود عليه السلام قد أوتي من شدة الصوت وحسنه ما كان له في الجبال دوي حسن وما يعصغي الطير إليه لحسنه فيكون دوي الجبال وتصويت الطير معه وإصغاؤه إليه تسبيحاً وذكر محمد بن إسحاق أن الله تعالى لم يعط أحداً من خلقه مثل حصوت داود حتى أنها كانت تسير إلى حيث يريده داود وجعل ذلك السير تسبيحاً لأنه كان يدل على كمال قدرة الله تعالى وحكمته
البحث الثاني قال صاحب ( الكشاف ) يُسَبّحْنَ في معنى مسبحات فإن قالوا هل من فرق بين يسبحن ومسبحات قلنا نعم فإن صيغة الفعل تدل على الحدوث التجدد وصيغة الاسم على الدوام على ما بينه عبد القاهر النحوي في كتاب دلائل الإعجاز إذا ثبت هذا فنقول قوله يُسَبّحْنَ يدل على حدوث التسبيح من الجبال شيئاً بعد شيء وحالاً بعد حال وكان السامع حاضر تلك الجبال يسمعها تسبح
والبحث الثالث قال الزجاج يقال شرقت الشمس إذا طلعت وأشرقت إذا أضاءت وقيل هما بمعنى والأول أكثر تقول العرب شرقت الشمس والماء يشرق
والبحث الرابع احتجوا على شرعية صلاة الضحى بهذه الآية عن أم هانىء قالت ( دخل علينا رسول الله ( ﷺ ) فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى صلاة الضحى وقا يا أم هانىء هذه صلاة الإشراق ) وعن طاووس عن ابن عباس قال ( هل تجدون ذكر صلاة الضحى في القرآن قالوا لا فقرأ إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق ) توقال كان يصليها داود عليه السلام وقال لم يزل في نفسي شيء من صلاة الضحى حتى وجدتها في قوله يُسَبّحْنَ بِالْعَشِى ّ وَالإشْرَاقِ
الصفة السادسة من صفات داود عليه السلام وقوله تعالى وَالطَّيْرَ مَحْشُورَة ً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ وفيه مباحث
البحث الأول قوله وَالطَّيْرُ معطوفة على الجبال والتقدير وسخرنا الطير محشورة قال ابن عباس رضي الله عنهما كان داود إذا سبح جاوبته الجبال واجتمعت إليه الطير فسبحت معه واجتماعها إليه هو حشرها فيكون على هذا التقدير حاشرها هو الله فَانٍ قِيلَ كيف يصدر تسبيح الله عن الطير مع أنه لا عقل لها قلنا لا يبعد أن يقال إن الله تعالى كان يخلق لها عقلاً حتى تعرف الله فتسبحه حينئذٍ وكان معجزة لداود عليه السلام
البحث الثاني قال صاحب ( الكشاف ) قوله مَحْشُورَة ً في مقابلة يُسَبّحْنَ إلا أنه ليس في الحشر مثل ما كان في التسبيح من إرادة الدلالة على الحدوث شيئاً بعد شيء فلا جرم جيء به اسماً لا فعلاً وذلك أنه قال لو قيل وسخرنا الظير محشورة يسبحن على تقدير أن الحشر وجد من حاشرها جملة واحدة دل على القدر المذكور والله أعلم
البحث الثالث قرىء وَالطَّيْرَ مَحْشُورَة ً بالرفع
الصفة السابفة من صفات داود عليه السلام قوله تعالى كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ ومعناه كل واحد من الجبال والطير أواب أي رجاع أي كلما رجع داود إلى التسبيح جاوبته فهذه الأشياء أيضاً كانت ترجع إلى تسبيحاتها والفرق بين هذه الصفة وبين ما قلبها أن فيما سبق علمنا أن الجبال والطير سبحت مع تسبيح داود عليه السلام وبهذا اللفظ فهمنا دوام تلك الموافقة وقيل الضمير في قوله كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ لله تعالى أي كل من داود والجبال والطير لله أواب أي مسبح مرجع للتسبيح
الصفة الثامنة قوله تعالى وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ أي قويناه وقال تعالى سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ( القصص ٣٥ ) وقيل شددنا على المبالغة وأما الأسباب الموجبة لحصول هذا الشد فكثيرة وهي إما الأسباب الدنيوية أو الدينية أما الأول فذكروا فيه وجهين الأول روى الواحدي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يحرسه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل فإذا أصبح قيل ارجعوا فقد رضي عنكم نبي الله وزاد آخرون فذكروا أربعين ألفاً قالوا وكان أشد ملوك الأرض سلطاناً وعن عكرمة عن ابن عباس أن رجلاً ادعى عند داود على رجل أخذ منه بقرة فأنكر المدعي علهي فقال داود للمدعي أقم البينة فلم يقمها فرأى داود في منامه أن الله يأمره أن يقتل المدعي عليه فثبت داود وقال هو منام فأتاه الوحي بعد ذلك بأن تقتله فاحضره وأعلمه أن أمره بقتله فقال المدعي عليه صدق الله إني كنت قتلت أبا هذا الرجل غيلة فقتله داود فهذه الواقعة شددت ملكه وأما الأسباب الدينية الموجبة لهذا الشد فهي الصبر والتأمل التام والاحتياط الكامل
الصفة التاسعة قوله وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ واعلم أنه تعالى قال وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَة َ فَقَدْ أُوتِى َ خَيْرًا كَثِيرًا ( البقرة ٢٦٩ ) واعلم أن الفضائل على ثلاثة أقسام النفسانية والبدنية والخارجية والفضائل النفسانية محصورة في قسمين العلم والعمل أما العلم فهو أن تصير النفس بالتصورات الحقيقية والتصديقات النفسانية بمقتضي الطاقة البشرية وأما العمل فهو أن يكون الإٌّ سان آتياً بالعمل الأصلح الأصوب بمصالح الدنيا والآخرة فهذا هو الحكمة وإنما سمي هذا بالحمة لأن اشتقاق الحكمة من إحكام الأمور وتقويتها وتبعيدها عن أسباب الرخاوة والضعف والاعتقادات الصائبة الصحيحة لا تقبل النسخة والنقض فكانت في غاية الإحكام وأما الأعمال المطابقة لمصالح الدنيا والآخرة فإنها واجبة الرعاية ولا تقبل


الصفحة التالية
Icon