يدرج في أثناء الكلام في هذا الفصل الأجنبي مقدمة مناسبة لذلك المطلوب الأول فإن ذلك المتعصب يسلم هذه المقدمة فإذا سلمها فحينئذ يتمسك بها في إثبات المطلوب الأول وحينئذ يصير ذلك الخصم المتعصب منقطعاً مفحماً إذا عرفت هذا فنقول إن الكفار بلغوا في إنكار الحشر والنشر والقيامة إلى حيث قالوا على سبيل الاستهزاء رَبَّنَا عَجّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ( ص ١٦ ) فقال يا محمد اقطع الكلام معهم في هذه المسألة واشرع في كلام آخر أجنبي بالكلية عن هذه المسألة وهي قصة داود عليه السلام فإن من المعلوم أنه لا تعلق لهذه القصة بمسألة الحشر والنشر ثم إنه تعالى أطنب في شرح تلك القصة ثم قال في آخر القصة مَئَابٍ يادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَة ً فِى الاْرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقّ ( ص ٢٦ ) وكل من سمع هذا قال نعم ما فعل حيث أمره بالحكم الحق ثم كأنه تعالى قال وأنا لا آمرك بالحق فقط بل أنا مع أني رب العالمين لا أفعل إلا بالحق ولا أفضي بالباطل فههنا الخصم يقول نعم ما فعل حيث لم يقض إلا بالحق فعند هذا يقال لما سلمت أن حكم الله يجب أن يكون بالحق لا بالباطل لزمك أن تسلم صحة القول بالحشر والنشر لأنه لو لم يحصل ذلك لزم أن يكون الكافر راجحاً على المسلم في إيصال الخيرات إليه وذلك ضد الحكمة وعين الباطل فبهذا الطريق اللطيف أورد الله تعالى الإلزام القاطع على منكري الحشر والنشر إيراداً لا يمكنهم الخلاص عنه فصار ذلك الخصم الذي بلغ في إنكار المعاد إلى حد الاستهزاء مفحماً ملزماً بهذا الطريق ولما ذكر الله تعالى هذه الطريقة الدقيقة في الإلزام في القرآن لا جرم وصف القرآن بالكمال والفضل فقال كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَاتِهِ إِلاَّ أُوْلُواْ الالْبَابِ فإن من لم يتدبر ولم يتأمل ولم يساعده التوفيق الإلهي لم يقف على هذه الأسرارل العجيبة المذكورة في هذا القرآن العظيم حيث يراه في ظاهر الحال مقروناً بسوء الترتيب وهو في الحقيقة مشتمل على أكمل جهات الترتيب فهذا ما حضرنا في تفسير هذه الآيات وبالله التوفيق
وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِى ِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ فَقَالَ إِنِّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِى حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ رُدُّوهَا عَلَى َّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالاٌّ عْنَاقِ
واعلم أن هذا هو القصة الثانية وقوله نِعْمَ الْعَبْدُ فيه مباحث
الأول نقول المخصوص بالمدح في نِعْمَ الْعَبْدُ محذوف فقيل هو سليمان وقيل داود والأول أولى لأنه أقرب المذكورين ولأنه قال بعده إِنَّهُ أَوَّابٌ ولا يجوز أن يكون المراد هو داود لأن وصفه بهذا المعنى قد تقدم في الآية المتقدمة حيث قال وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودُ ذَا الاْيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ( ص ١٧ ) فلو قلنا لفظ الأواب ههنا أيضاً صفة داود لزم التكرار ولو قلنا إنه صفة لسليمان لزم كون الابن شبيهاً لأبيه في صفات الكمال في الفضيلة فكان هذا أولى


الصفحة التالية
Icon