أنواع أخر من السعادات فوق ما عرفوها وسمعوها في الدنيا نسأل الله تعالى الفوز بها قال تعالى فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِى َ لَهُم مّن قُرَّة ِ أَعْيُنٍ ( السجدة ١٧ ) ورابعها أن المخبر بقوله لَهُمُ الْبُشْرَى هو الله تعالى وهو أعظم العظماء وأكمل الموجودات والشرط المعتبر في حصول هذه البشارة شرط عظيم وهو الاجتناب عما سوى الله تعالى والإقبال بالكلية على الله والسلطان العظيم إذا ذكر شرطاً عظيماً ثم قال لمن أتى بذلك الشرط العظيم أبشر فهذه البشارة الصادرة من السلطان العظيم المرتبة على حصول ذلك الشرط العظيم تدل على أن الذي وقعت البشارة به قد بلغ في الكمال والرفعة إلى حيث لا يصل إلى شرحها العقول والأفكار فثبت أن قوله لَهُمُ الْبُشْرَى يدل على نهاية الكمال والسعادة من هذه الوجوه والله أعلم
واعلم أنه تعالى لما قال لَهُمُ الْبُشْرَى وكان هذا المجمل أردفه بكلام يجري مجرى التفسير والشرح له فقال تعالى فَبَشّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ وأراد بعباده الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم وهذا يدل على أن رأس السعادات ومركز الخيرات ومعدن الكرامات هو الإعراض عن غير الله تعالى والإقبال بالكلية على طاعة الله والمقصود من هذا اللفظ التنبيه على أن الذين اجتنبوا الطاغوت وأنابوا هم الموصوفون بأنهم هم الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه فوضع الظاهر موضع المضمر تنبيهاً على هذا الحرف ومنهم من قال إنه تعالى لما بين أن الذين اجتنبوا وأنابوا لهم البشرى وكان ذلك درجة عالية لا يصل إليها إلا الأولون وقصر السعادة عليهم يقتضي الحرمان للأكثرين وذلك لا يليق بالرحمة التامة لا جرم جعل الحكم أعم فقال كل من اختار الأحسن في كل باب كان في زمرة السعداء واعلم أن هذه الآية تدل على فوائد
الفائدة الأولى وجوب النظر والاستدلال وذلك لأنه تعالى بين أن الهداية والفلاح مرتبطان بما إذا سمع الإنسان أشياء كثيرة فإنه يختار منها ما هو الأحسن الأصوب ومن المعلوم أن تمييز الأحسن الأصوب عما سواه لا يحصل بالسماع لأن السماع صار قدراً مشتركاً بين الكل لأن قوله الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ يدل على أن السماع قدر مشترك فيه فثبت أن تمييز الأحسن عما سواه لا يتأتى بالسماع وإنما يتأتى بحجة العقل وهذا يدل على أن الموجب لاستحقاق المدح والثناء متابعة حجة العقل وبناء الأمر على النظر والاستدلال
الفائدة الثانية أن الطريق إلى تصحيح المذاهب والأديان قسمان أحدهما إقامة الحجة والبينة على صحته على سبيل التحصيل وذلك أمر لا يمكن تحصيله إلا بالخوض في كل واحد من المسائل على التفصيل والثاني أنا قبل البحث عن الدلائل وتقريرها والشبهات وتزييفها نعرض تلك المذاهب وأضدادها على عقولنا فكل ما حكم أول العقل بأنه أفضل وأكمل كائن أولى بالقبول مثاله أن صريح العقل شاهد بأن الإقرار بأن إله العالم حي عالم قادر حليم حكيم رحيم أولى من إنكار ذلك فكان ذلك المذهب أولى والإقرار بأن الله تعالى لا يجري في ملكه وسلطانه إلا ما كان على وفق مشيئته أولى من القول بأن أكثر ما يجرى في سلطان الله على خلاف إرادته وأيضاً الإقرار بأن الله فرد أحد صمد منزه عن التركيب والأعضاء أولى من القول بكونه متبعضاً مؤلفاً وأيضاً القول باستغنائه عن الزمان والمكان أولى من القول باحتياجه اليهما وأيضاً القول بأن الله رحيم كريم قد يعفو عن العقاب أولى من القول بأنه لا يعفو عنه ألبتة وكل هذه


الصفحة التالية
Icon