الخطاب والتقدير أأنت مالك أمرهم فمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذه والهمزة الثانية هي الأولى كررت لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد ووضع من في النار موضع الضمير والآية على هذا جملة واحدة الثالث لا يبعد أن يقال إن حرف الاستفهام إنما ورد ههنا لإفادة معنى الإنكار ولما كان استنكاره هذا المعنى كاملاً تاماً لا جرم ذكر هذا الحرف في الشرط وأعاده في الجزاء تنبيهاً على المبالغة التامة في ذلك الإنكار
المسألة الثانية احتج الأصحاب بهذه الآية في مسألة الهدى والضلال وذلك لأنه تعالى قال أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَة ُ الْعَذَابِ فإذا حقت كلمة العذاب عليه امتنع منه فعل الإيمان والطاعة وإلا لزم انقلاب خبر الله الصدق كذباً وانقلاب علمه جهلاً وهو محال والوجه الثاني في الاستدلال بالآية أنه تعالى حكم بأن حقية كلمة العذاب توجب الإستنكار التام من صدور الإيمان والطاعة عنه ولو كان ذلك ممكناً ولم تكن حقيقة كلمة العذاب مانعة منه لم يبق لهذا الاستنكار والاستبعاد معنى
المسألة الثالثة احتج القاضي بهذه الآية على أن النبي ( ﷺ ) لا يشفع لأهل الكبائر قال لأنه حق عليهم العذاب فتلك الشفاعة تكون جارية مجرى إنقاذهم من النار وأن الله تعالى حكم عليهم بالإنكار والإستبعاد فيقال له لا نسلم أن أهل الكبائر قد حق عليهم العذاب وكيف يحق العذاب عليهم مع أن الله تعالى قال إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء ٤٨ ) ومع قوله إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ( الزمر ٥٣ ) والله أعلم
النوع الثاني من الأشياء التي وعدها الله هؤلاء الذين اجتنبوا وأنابوا قوله تعالى لَاكِنِ الَّذِينَ اتَّقَواْ رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّة ٌ وهذا كالمقابل لما ذكر في وصف الكفار لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ( الزمر ١٦ ) فإن قيل ما معنى قوله مَّبْنِيَّة ٌ قلنا لأن المنزل إذا بنى على منزل آخر تحته كان الفوقاني أضعف بناء من التحتاني فقوله مَّبْنِيَّة ٌ معناه أنه وإن كان فوق غيره لكنه في القوة والشدة مساو للمنزل الأسفل والحاصل أن المنزل الفوقاني والتحتاني حصل في كل واحد منهما فضيلة ومنقصة أما الفوقاني ففضيلته العلو والارتفاع ونقصانه الرخاوة والسخافة وأما التحتاني فبالضد منه أما منازل الجنة فإنها تكون مستجمعة لكل الفضائل وهي عالية مرتفعة وتكون في غاية القوة والشدة وقال حكماء الإسلام هذه الغرف المبنية بعضها فوق البعض مثاله من الأحوال النفسانية العلوم الكسبية فإن بعضها يكون مبنياً على البعض والنتائج الآخرة التي هي عبارة عن معرفة ذات الله وصفاته تكون في غاية القوة بل تكون في القوة والشدة كالعلوم الأصلية البديهية
ثم قال تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ وذلك معلوم ثم ختم الكلام فقال وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ فقوله وَعَدَ اللَّهُ مصدر مؤكد لأن قوله لَهُمْ غُرَفٌ في معنى وعدهم الله ذلك وفي الآية دقيقة شريفة وهي أنه تعالى في كثير من آيات الوعد صرح بأن هذا وعد الله وأنه لا يخلف وعده ولم يذكر في آيات الوعيد ألبتة مثل هذا التأكيد والتقوية وذلك يدل على أن جانب الوعد أرجح من جانب الوعيد بخلاف ما يقوله المعتزلة فإن قالوا أليس أنه قال في جانب الوعيد مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَى َّ وَمَا أَنَاْ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ قلنا قوله ما يبدل القول لدي ليس تصريحاً بجانب الوعيد بل هو كلام عام يتناول القسمين أعني الوعد والوعيد فثبت أن الترجيح الذي ذكرناه حق والله أعلم


الصفحة التالية
Icon