المسألة الثالثة قوله فَوَيْلٌ لّلْقَاسِيَة ِ قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ اللَّهِ فيه سؤال وهو أن ذكر الله سبب لحصول النور والهداية وزيادة الإطمئنان كما قال أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ( الرعد ٢٨ ) فكيف جعله في هذه الآية سبباً لحصول قسوة القلب والجواب أن نقول إن النفس إذا كانت خبيثة الجوهر كدرة العنصر بعيدة عن مناسبة الروحانيات شديدة الميل إلى الطبائع البهيمية والأخلاق الذميمة فإن سماعها لذكر الله يزيدها قسوة وكدورة وتقرير هذا الكلام بالأمثلة فإن الفاعل الواحد تختلف أفعاله بحسب اختلاف القوابل كنور الشمس يسود وجه القصار ويبيض ثوبه وحرارة الشمس تلين الشمع وتعقد الملح وقد نرى إنساناً واحداً يذكر كلاماً واحداً في مجلس واحد فيستطيبه واحد ويستكرهه غيره وما ذاك إلا ما ذكرناه من اختلاف جواهر النفوس ومن اختلاف أحوال تلك النفوس ولما نزل قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ وكان قد حضر هناك عمر بن الخطاب وإنسان آخر فلما انتهى رسول الله ( ﷺ ) إلى قوله تعالى ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً قال كل واحد منهم فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( المؤمنون ١٢ ١٤ ) فقال رسول الله ( ﷺ ) ( اكتب فهكذا أنزلت ) فازداد عمر إيماناً على إيمان وازداد ذلك الإنسان كفراً على كفر إذا عرفت هذا لم يبعد أيضاً أن يكون ذكر الله يوجب النور والهداية والاطمئنان في النفوس الطاهرة الروحانية ويوجب القسوة والبعد عن الحق في النفوس الخبيثة الشيطانية إذا عرفت هذا فنقول إن رأس الأدوية التي تفيد الصحة الروحانية ورئيسها هو ذكر الله تعالى فإذا اتفق لبعض النفوس أن صار ذكر الله تعالى سبباً لازدياد مرضها كان مرض تلك النفس مرضاً لا يرجى زواله ولا يتوقع علاجه وكانت في نهاية الشر والرداءة فلهذا المعنى قال تعالى فَوَيْلٌ لّلْقَاسِيَة ِ قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ وهذا كلام كامل محقق ولما بين تعالى ذلك أردفه بما يدل على أن القرآن سبب لحصول النور والشفاء والهداية وزيادة الاطمئنان والمقصود منه بيان أن القرآن لما كان موصوفاً بهذه الصفات ثم إنه في حق ذلك الإنسان صار سبباً لمزيد القسوة دل ذلك على أن جوهر تلك النفس قد بلغ في الرداءة والخساسة إلى أقصى الغايات فنقول إنه تعالى وصف القرآن بأنواع من صفات الكمال
الصفة الأولى قوله تعالى اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وفيه مسائل
المسألة الأولى القائلون بحدوث القرآن احتجوا بهذه الآية من وجوه الأول أنه تعالى وصفه بكونه حديثاً في هذه الآيات وفي آيات أخرى منها قوله تعالى فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ ( الطور ٣٤ ) ومنها قوله تعالى أَفَبِهَاذَا الْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ ( الواقعة ٨١ ) والحديث لا بد وأن يكون حادثاً قالوا بل الحديث أقوى في الدلالة على الحدوث من الحادث لأنه يصح أن يقال هذا حديث وليس بعتيق وهذا عتيق وليس بحادث فثبت أن الحديث هو الذي يكون قريب العهد بالحديث وسمي الحديث حديثاً لأنه مؤلف من الحروف والكلمات وتلك الحروف والكلمات تحدث حالا فحالا وساعة فساعة فهذا تمام تقرير هذا الوجه
أما الوجه الثاني في بيان استدلال القوم أن قالوا إنه تعالى وصفه بأنه نزله والمنزل يكون في محل تصرف الغير وما يكون كذلك فهو محدث وحادث
وأما الوجه الثالث في بيان استدلال القوم أن قالوا إن قوله أحسن الحديث يقتضي أن يكون هو من جنس سائر الأحاديث كما أن قوله زيد أفضل الإخوة يقتضي أن يكون زيد مشاركاً لأولئك الأقوام في صفة


الصفحة التالية
Icon