فقوله ذالِكَ إشارة إلى الكتاب وهو هدى الله يهدي به من يشاء من عباده وهو الذي شرح صدره أولاً لقبول هذه الهداية وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ أي من جعل قلبه قاسياً مظلماً بليد الفهم منافياً لقبول هذه الهداية فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ واستدلال أصحابنا بهذه الآية وسؤالات المعتزلة وجوابات أصحابنا عين ما تقدم في قوله فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ ( الأنعام ١٢٥ )
أما قوله تعالى أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فاعلم أنه تعالى حكم على القاسية قلوبهم بحكم في الدنيا وبحكم في الآخرة أما حكمهم في الدنيا فهو الضلال التام كما قال وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ( الرعد ٣٣ ) وأما حكمهم في الآخرة فهو العذاب الشديد وهو المراد من قوله أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وتقريره أن أشرف الأعضاء هو الوجه لأنه محل الحسن والصباحة وهو أيضاً صومعة الحواس وإنما يتميز بعض الناس عن بعض بسبب الوجه وأثر السعادة والشقاوة لا يظهر إلا في الوجه قال تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَة ٌ ضَاحِكَة ٌ مُّسْتَبْشِرَة ٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَة ٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَة ٌ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَة ُ الْفَجَرَة ُ ( عبس ٣٨ ٤٢ ) ويقال لمقدم القوم يا وجه العرب ويقال للطريق الدال على كنه حال الشيء وجه كذا هو كذا فثبت بما ذكرنا أن أشرف الأعضاء هو الوجه فإذا وقع الإنسان في نوع من أنواع العذاب فإنه يجعل يده وقاية لوجهه وفداءً له وإذا عرفت هذا فنقول إذا كان القادر على الاتقاء يجعل كل ما سوى الوجه فداء للوجه لا جرم حسن جعل الاتقاء بالوجه كناية عن العجز عن الاتقاء ونظيره قول النابغة ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
أي لا عيب فيهم إلا هذا وهو ليس بعيب فلا عيب فيهم إذن بوجه من الوجوه فكذا ههنا لا يقدرون على الاتقاء بوجه من الوجوه إلا بالوجه وهذا ليس باتقاء فلا قدرة لهم على الاتقاء ألبتة ويقال أيضاً إن الذي يلقى في النار يلقى مغلولة يداه إلى عنقه ولا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه إذا عرفت هذا فنقول جوابه محذوف وتقديره أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة كمن هو آمن من العذاب فحذف الخبر كما حذف في نظائره وسوء العذاب شدته
ثم قال تعالى وَقِيلَ لِلظَّلِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ولما بين الله تعالى كيفية عذاب القاسية قلوبهم في الآخرة بين أيضاً كيفية وقوعهم في العذاب في الدنيا فقال كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ وهذا تنبيه على حال هؤلاء لأن الفاء في قوله فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ تدل على أنهم إنما أتاهم العذاب بسبب التكذيب فإذا كان التكذيب حاصلاً ههنا لزم حصول العذاب استدلالاً بالعلة على المعلول وقوله مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ أي من الجهة التي لا يحسبون ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها بينما هم آمنون إذ أتاهم العذاب من الجهة التي توقعوا الأمن منها ولما بين أنه أتاهم العذاب في الدنيا بين أيضاً أنه أتاهم الخزي وهو الذل والصغار والهوان والفائدة في ذكر هذا القيد أن العذاب التام هو أن يحصل فيه الألم مقروناً بالهوان والذل
ثم قال وَلَعَذَابُ الاْخِرَة ِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ يعني أن أولئك وإن نزل عليهم العذاب والخزي كما تقدم ذكره فالعذاب المدخر لهم في يوم القيامة أكبر وأعظم من ذلك الذي وقع والمقصود من كل ذلك التخويف والترهيب فلما ذكر الله تعالى هذه الفوائد المتكاثرة والنفائس المتوافرة في هذه المطالب بين


الصفحة التالية
Icon