المسألة الأولى السد من بين الأيدي ذكره ظاهر الفائدة فإنهم في الدنيا سالكون وينبغي أن يسلكوا الطريقة المستقيمة وَمِن بَيْنِنَا أَيْدِيهِمْ سَدّاً فلا يقدرون على السلوك وأما السد من خلفهم فما الفائدة فيه فنقول الجواب عنه من وجوه الأول هو أن الإنسان له هداية فطرية والكافر قد يتركها وهداية نظرية والكافر ما أدركها فكأنه تعالى يقول جَعَلْنَا مَنسَكًا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً فلا يرجعون إلى الهداية الجبلية التي هي الفطرية الثاني هو أن الإنسان مبدأه من الله ومصيره إليه فعمى الكافر لا يبصر ما بين يديه من المصير إلى الله ولا ما خلفه من الدخول في الوجود بخلق الله الثالث هو أن السالك إذا لم يكن له بد من سلوك طريق فإن انسد الطريق الذي قدامه يفوته المقصد ولكنه يرجع وإذا انسد الطريق من خلفه ومن قدامه فالموضع الذي هو فيه لا يكون موضع إقامة لأنه مهلك فقوله وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ إشارة إلى إهلاكهم
المسألة الثانية قوله تعالى فَأغْشَيْنَاهُمْ بحرف الفاء يقتضي أن يكون للإغشاء بالسد تعلق ويكون الإغشاء مرتباً على جعل السد فكيف ذلك فنقول ذلك من وجهين أحدهما أن يكون ذلك بياناً لأمور مترتبة يكون بعضها سبباً للبعض فكأنه تعالى قال إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْناقِهِمْ أَغْلَالاً فلا يبصرون أنفسهم لإقماحهم وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فلا يبصرون ما في الآفاق وحينئذٍ يمكن أن يروا السماء وما على يمينهم وشمالهم فقال بعد هذا كله وَجَعَلْنَا عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَة ٌ فلا يبصرون شيئاً أصلاً وثانيهما هو أن ذلك بيان لكون السد قريباً منهم بحيث يصير ذلك كالغشاوة على أبصارهم فإن من جعل من خلفه ومن قدامه سدين ملتزقين به بحيث يبقى بينهما ملتزقاً بهما تبقى عينه على سطح السد فلا يبصر شيئاً أما غير السد فللحجاب وأما عين السد فلكون شرط المرئي أن لا يكون قريباً من العين جداً
المسألة الثالثة ذكر السدين من بين الأيدي ومن خلف ولم يذكر من اليمين والشمال ما الحكمة فيه فنقول أما على قولنا إنه إشارة إلى الهداية الفطرية والنظرية فظاهر وأما على غير ذلك فنقول بما ذكر حصل العموم والمنع من انتهاج المناهج المستقيمة لأنهم إن قصدوا السلوك إلى جانب اليمين أو جانب الشمال صاروا متوجهين إلى شيء ومولين عن شيء فصار ما إليه توجههم ما بين أيديهم فيجعل الله السد هناك فيمنعه من السلوك فكيفما يتوجه الكافر يجعل الله بين يديه سداً ووجه آخر أحسن مما ذكرنا وهو أنا لما بينا أن جعل السد صار سبباً للإغشاء كان السد ملتزقاً به وهو ملتزق بالسدين فلا قدرة له على الحركة يمنة ولا يسرة فلا حاجة إلى السد عن اليمين وعن الشمال وقوله تعالى فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ يحتمل ما ذكرنا أنهم لا يبصرون شيئاً ويحتمل أن يكون المراد هو أن الكافر مصدود وسبيل الحق عليه مسدود وهو لا يبصر السد ولا يعلم الصد فيظن أنه على الطريقة المستقيمة وغير ضال
وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَءَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ
ثم إنه تعالى بين أن الإنذار لا ينفعهم مع ما فعل الله بهم من الغل والسد والإغشاء والإعماء بقوله تعالى وَسَوَآء عَلَيْهِمْ أَءنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ أي الإنذار وعدمه سيان بالنسبة إلى الإيمان منهم إذ لا وجود له منهم على التقديرين فإن قيل إذا كان الإنذار وعدمه سواء فلماذا الإنذار نقول قد أجبنا في غير هذا الموضع أنه تعالى قال سَوَاء عَلَيْهِمْ وما قال سواء عليك فالإنذار بالنسبة إلى النبي ( ﷺ ) ليس كعدم الإنذار لأن أحدهما مخرج له عن العهدة وسبب في زيادة سيادته عاجلاً وسعادته آجلاً وأما بالنسبة إليهم


الصفحة التالية
Icon