أَنُطْعِمُ نقول فيه بيان غاية مخالفتهم وذلك لأنهم إذا أمروا بالإنفاق والإنفاق يدخل فيه الإطعام وغيره لم يأتوا بالإنفاق ولا بأقل منه وهو الإطعام وقالوا لا نطعم وهذا كما يقول القائل لغيره أعط زيداً ديناراً يقول لا أعطيه درهماً مع أن المطابق هو أن يقول لا أعطيه ديناراً ولكن المبالغة في هذا الوجه أتم فكذلك ههنا
المسألة الثالثة كان كلامهم حقاً فإن الله لو شاء أطعمه فلماذا ذكره في معرض الذم نقول لأن مرادهم كان الإنكار لقدرة الله أو لعدم جواز الأمر بالاتفاق مع قدرة الله وكلاهما فاسد بين الله ذلك في قوله مِمَّا رَزَقَكُمُ فإنه يدل على قدرته ويصحح أمره بالإعطاء لأن من كان له في يد الغير مال وله في خزائنه مال فهو مخير إن أراد أعطى مما في خزائنه وإن أراد أمر من عنده المال بالإعطاء ولا يجوز أن يقول من بيده ماله في خزائنك أكثر مما في يدي أعطه منه وقوله إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ إشارة إلى اعتقادهم أنهم قطعوا المؤمنين بهذا الكلام وأن أمرهم بالإنفاق مع قولهم بقدرة الله ظاهر الفساد واعتقادهم هو الفاسد وفيه مباحث لغوية معونية
أما اللغوية فنقول ءانٍ وردت للنفي بمعنى ما وكان الأرض في إن أن تكون للشرط والأصل في ما أن تكون للنفي لكنهما اشتركا من بعض الوجوه فتقارضا واستعمل ما في الشرط واستعمل إن في النفي أما الوجه المشترك فهو أن كل واحد منهما حرف مركب من حرفين متقاربين فإن الهمزة تقرب من الألف والميم من النون ولا بد من أن يكون المعنى الذي يدخل عليه ما وأن لا يكون ثابتاً أما في ما فظاهر وأما في إن فلأنك إذا قلت إن جاءني زيد أكرمه ينبغي أن لا يكون له في الحال مجىء فاستعمل إن مكان ما وقيل إن زيد قائم أي ما زيد بقائم واستعمل ما في الشرط تقول ما تصنع أصنع والذي يدل على ما ذكرنا أن ما النافية تستعمل حيث لا تستعمل إن وذلك لأنك تقول ما إن جلس زيد فتجعل إن صلة ولا تقول إن جلس زيد بمعنى النفي وبمعنى الشرط تقول إما ترين فتجعل إن أصلاً وما صلة فدلنا هذا على أن إن في الشرط أصل وما دخيل وما في النفي بالعكس
البحث الثاني قد ذكرنا أن قوله إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ يفيد ما لا يفيد قوله أنتم في ضلال لأنه يوجب الحصر وأنه ليسوا في غير الضلال
البحث الثالث وصف الضلال بالمبين قد ذكرنا معناه أنه لظهوره يبين نفسه أنه ضلال أي في ضلال لا يخفى على أحد أنه ضلال
البحث الرابع قد ذكرنا أن قوله فِى ضَلَالٍ يفيد كونه مغمورين فيه غائصين وقوله في مواضع عَلَى بَيّنَة ٍ ( الأنعام ٥٧ ) و عَلَى هُدًى ( البقرة ٥ ) إشارة إلى كونهم راكبين متن الطريق المستقيم قادرين عليه
وأما المعنوية فهي أنهم إنما وصفوا الذين آمنوا بكونهم في ضلال مبين لكونهم ظانين أن المؤمن كلامه متناقض ومن تناقض كلامه يكون في غاية الضلال إنما قلنا ذلك لأنهم قالوا أَنُطْعِمُ لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ إشارة إلى أن الله إن شاء أن يطعمهم كان يطعمهم فلا تدر على إطعامهم لأنه يكون تحصيلاً للحاصل وإن لم يشأ الله إطعامهم لا يقدر أحد على إطعامهم لامتناع وقوع ما لم يشأ الله فلا قدرة لنا على الإطعام فكيف تأمرونا بالإطعام ووجه آخر وهو أنهم قالوا أراد الله تجويعهم فلو أطعمناهم يكون ذلك سعياً


الصفحة التالية
Icon