ثم قال تعالى
وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ
وفيه وجوه منها تبيين وجه الترتيب أيضاً الأول امتازوا في أنفسكم وتفرقوا كما قال تعالى تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ ( الملك ٨ ) أي بعضه من بعض غير أن تميزهم من الحسرة والندامة ووجه الترتيب حينئذ أن المجرم يرى منزلة المؤمن ورفعته ونزول دركته وضعته فيتحسر فيقال لهم امتازوا اليوم إذ لا دواء لألمكم ولا شفا لسقمكم الثاني امتازوا عن المؤمنين وذلك لأنهم يكونون مشاهدين لما يصل إلى المؤمن من الثواب والإكرام ثم يقال لهم تفرقوا وادخلوا مساكنكم من النار فلم يبق لكم اجتماع بهم أبداً الثالث امتازوا بعضكم عن بعض على خلاف ما للمؤمن من الاجتماع بالإخوان الذي أشار إليه بقوله تعالى هُمْ وَأَزْواجُهُمْ ( يس ٥٦ ) فأهل النار يكون لهم العذاب الأليم وعذاب الفرقة أيضاً ولا عذاب فوق الفرقة بل العقلاء قالوا بأن كل عذاب فهو بسب تفرق اتصال فإن من قطعت يده أن أحرق جسمه فإنما يتألم بسبب تفرق المتصلات بعضها عن بعض لكن التفرق الجسمي دون التفرق العقلي الرابع امتازوا عن شفعائكم وقرنائكم فما لكم اليوم حميم ولا شفيع الخامس امتازوا عما ترجون واعتزلوا عن كل خير والمجرم هو الذي يأتي بالجريمة ويحتمل أن يقال إن المراد منه أن الله تعالى يقول امتازوا فيظهر عليهم سيما يعرفون بها كما قال تعالى يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ ( الرحمن ٤١ ) وحينئذ يكون قوله تعالى امتازوا أمر تكوين كما أنه يقول كن فيكون كذلك يقول امتازوا فيتميزون بسيماهم ويظهر على جباههم أو في وجهوهم سواء ثم قال تعالى
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابَنِى ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ
لما ذكر الله تعالى حال المؤمنين والمجرمين كان لقائل أن يقال إن الإنسان كان ظلوماً جهولاً والجهل من الأعذار فقال الله ذلك عند عدم الإنذار وقد سبق إيضاح السبل بإيضاح الرسل وعهدنا إليكم وتلونا عليكم ما ينبغي أن تفعلوه وما لا ينبغي وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في اللغات التي في أَعْهَدْ وهي كثيرة الأولى كسر همزة إعهد وحروف الاستقبال كلها تكسر إلا الياء فلا يقال يعلم ويعلم الثانية كسر الهاء من باب ضرب يضرب الثالثة قلب العين جيما ألم أجهد وذلك في كل عين بعدها هاء الرابعة إدغام الهاء في الحاء بعد القلب فيقال ألم أحد وقد سمع قوم يقولون دحاء محا أي دعها معها
المسألة الثانية في معنى أعهد وجوه أقربها وأقربها ألم أوص إليكم
المسألة الثالثة في هذا العهد وجوه الأول أنه هو العهد الذي كان مع أبينا آدم بقوله وَعَهِدْنَا إِلَى ءادَمَ ( طه ١١٥ ) الثاني أنه هو الذي كان مع ذرية آدم بقوله تعالى أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى ( الأعراف ١٧٢ ) فإن ذلك يقتضي أن لا نعبد غير الله الثالث هو الأقوى أن ذلك كان مع كل قوم على لسان


الصفحة التالية
Icon