( الذاريات ٥٦ ) يدل على أنه لم يرد منهم إلا العبادة فثبت بهذا أنه تعالى لم يرد منهم المعاصي وأما هذه الآية فنقول إنه تعالى لم يقل وقيضنا لهم قرناء ليزينوا لهم وإنما قال فَزَيَّنُواْ لَهُم فهو تعالى قيض القرناء لهم بمعنى أنه تعالى أخرج كل أحد إلى آخر من جنسه فقيض أحد الزوجين للآخر والغني للفقير والفقير للغني ثم بيّن تعالى أن بعضهم يزين المعاصي للبعض
واعلم أن وجه استدلال أصحابنا ما ذكرناه وهو أن من فعل فعلاً وعلم قطعاً أن ذلك الفعل يفضي إلى أثر فاعل ذلك الفعل يكون مريداً لذلك الأثر فههنا الله تعالى قيض أولئك القرناء لهم وعلم أنه متى قيض أولئك القرناء لهم فإنهم يقعون في ذلك الكفر والضلال وما ذكره الجبائي لا يدفع ذلك وقلوه ولو أراد الله منهم المعاصي لكانوا بفعلها مطيعين لله قلنا لو كان من فعل ما أراده غيره مطيعاً له لوجب أن يكون الله مطيعاً لعباده إذا فعل ما أرادوه معلوم أنه باطل وأيضاً فهذا إلزام لفظي لأنه يقال إن أردت بالطاعة أنه فعل ما أراد فهذا إلزام للشيء على نفسه وأن أردت غيره فلا بد من بيانه حتى ينظر فيه أنه هل يصح أم لا
المسألة الثانية اختلفوا في المراد بقوله فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وذكر الزجاج فيه وجهين الأول زينوا لهم ما بين أيديهم من أمر الآخرة أنه لا بعث ولا جنّة ولا نار وما خلفهم من أمر الدنيا فزينوا أن الدنيا قديمة وأنه لا فاعل ولا صانع إلا الطبائع والأفلاك الثاني زينوا لهم أعمالهم التي يعملونها ويشاهدونها وما خلفهم وما يزعمون أنهم يعلمونه وعبّر ابن زيد عنه فقال زينوا لهم ما مضى من أعمالهم الخبيثة وما بقي من أعمالهم الخسيسة
ثم قال تعالى وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْمَ فِيهَا أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ فقوله في أمم في محل النصب على الحال من الضمير في عليهم والتقدير حق عليهم القول حال كونهم كائنين في جملة أُمَمٌ من المتقدمين إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ واحتج أصحابنا أيضاً بأنه تعالى أخبر بأن هؤلاء حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فلو لم يكونوا كفاراً لانقلب هذا القول الحق باطلاً وهذا العلم جهلاً وهذا الخبر الصدق كذباً وكل ذلك محال ومستلزم المحال محال فثبت أن صدور الإيمان عنهم وعدم صدور الكفر عنهم محال
واعلم أن الكلام في أول السورة ابتدىء من قوله وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ إلى قوله فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ( فصلت ٥ ) فأجاب الله تعالى عن تلك الشبهة بوجوه من الأجوبة واتصل الكلام بعضه بالبعض إلى هذا الموضع ثم إنه حكى عنهم شبهة أخرى فقال وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَاذَا الْقُرْءانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ قال صاحب ( الكشاف ) قرىء وَالْغَوْاْ فِيهِ بفتح الغين وضمها يقال لغى يلغي ويلغو واللغو الساقط من الكلام الذي لا طائل تحته
واعلم أن القوم علموا أن القرآن كلام كالم في المعنى وفي اللفظ وأن كل من سمعه وقف على جزالة ألفاظه وأْاط عقله بمعانيه وقضى عقله بأنه كلام حق واجد القبول فدبروا تدببيراً في منع الناس عن استماعه فقال بعضهم لبعض لاَ تَسْمَعُواْ لِهَاذَا الْقُرْءانِ إذا قرىء وتشاغلوا عند قراءته برفع الأصوات بالخرافات والأشعار الفاسدة والكلمات الباطلة حتى تخلطوا على القارىء وتشوشوا عليه وتغلبوا على قراءته كاانت قريش يوصي بذلك بعضهم بعضاً والمراد افعلوا عند تلاوة القرآن ما يكون لغواً وباطلاً


الصفحة التالية
Icon