الكلام من أول السورة إلى هذا الموضع واقعاً على أحسن وجوه الترتيب ثم كأن سأل فقال إن الدعوة إلى الله وإن كانت طاعة عظيمة إلا أن الصبر على سفاهة هؤلاء الكفار شديد لا طاقة لنا به فعند هذا ذكر الله ما يصلح لأن يكون دافعاً لهذا الإشكال فقال الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تَسْتَوِى الْحَسَنَة ُ وَلاَ السَّيّئَة ُ والمراد بالحسنة دعوة الرسول ( ﷺ ) إلى الدين الحق والصبر على جهالة الكفار وترك الانتقام وترك الالتفات إليهم والمراد بالسيئة ما أظهروه من الجلافة في قولهم قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وما ذكروه في قولهم لاَ تَسْمَعُواْ لِهَاذَا الْقُرْءانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ فكأنه قال يا محمد فعلك حسنة وفعلهم سيئة ولا تستوي الحسنة ولا السيئة بمعنى أنك إذا أتيت بهذه الحسنة تكون مستوجباً للتعظيم في الدنيا والثواب في الآخرة وهم بالضد من ذلك فلا ينبغي أن يكون إقدامهم على تلك السيئة مانعاً لك من الاشتغال بهذه الحسنة
ثم قال ادْفَعْ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ يعني ادفع سفاهتهم وجهالتهم بالطريق الذي هو أحسن الطرق فإنك إذا صبرت على سوء أخلاقهم مرة بعد أخرى ولم تقابل سفاهتهم بالغضب ولا إضرارهم بالإيذاء والإيحاش استحيوا من تلك الأخلاق المذمومة وتركوا تلك الأفعال القبيحة
ثم قال فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَة ٌ كَأَنَّهُ وَلِى ٌّ حَمِيمٌ يعني إذا قابلت إسائتهم بالإحسان وأفعالهم القبيحة بالأفعال الحسنة تركوا أفعالهم القبيحة وانقلبوا من العداوة إلى المحبة ومن البغضة إلى المودة ولما أرشد الله تعالى إلى هذا الطريق النافع في الدين والدنيا والآخرة عظمة فقال وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ قال الزجاج أي وما يلقى هذه الفعلة إلا الذين صبروا على تحمل المكاره وتجرع الشدائد وكظم الغيظ وترك الانتقام
ثم قال وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ من الفضائل النفسانية والدرجة العالية في القوة الروحانية فإن الاشتغال بالانتقام والدفع لا يحصل إلا بعد تأثر النفس وتأثر النفس من الواردات الخارجية لا يحصل إلا عند ضعف النفس فأما إذا كانت النفس قوية الجوهر لم تتأثر من الواردات الخارجية وإذا لم تتأثر منها لم تضعف ولم تتأذ ولم تشتغل بالانتقام فثبت أن هذه السيرة التي شرحناها لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم من قوة النفس وصفاء الجوهر وطهارة الذات ويحتمل أن يكون المراد وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم من ثواب الآخرة فعلى هذا الوجه قوله وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ مدح بفعل الصبر وقوله وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ وعد بأعظم الحظ من الثواب
ولما ذكر هذا الطريق الكامل في دفع الغضب والانتقام وفي ترك الخصومة ذكر عقيبه طريقاً آخر عظيم النفع أيضاً في هذا الباب فقال وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وهذه الآية مع ما فيها من الفوائد الجليلة مفسرة في آخر سورة الأعراف على الاستقصاء قال صاحب ( الكشاف ) النزغ والنسغ بمعنى واحد وهو شبه النخس والشيطان ينزغ الإنسان كأنه ينخسه ببعثه على ما لا ينبغي وجعل النزغ نازغاً كما قيل جد جده أو أُريد وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ نازغ وصفاً للشيطان بالمصدر وبالجملة فالمقصود من الآية وإن صرفك الشيطان عما شرعت من الدفع بالتي هي أحسن فاستعذ بالله من شره وامض على شأنك ولا تطعه والله أعلم


الصفحة التالية
Icon