أما قوله إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ فقال الكسائي والفرّاء والمبرد والزجاج بَرَاء مصدر لا يثنى وا يجمع مثل عدل ورضا وتقول العرب أنا البراء منك والخلاء منك ونحن الراء منك والخلاء ولا يقولون البراآن ولا البرؤن لأن المعنى ذوا البراء وذوو البراء فإن قلت برىء وخلى ثنيت وجمعت
ثم استثنى خالقه من البراءة فقال إِلاَّ الَّذِى فَطَرَنِى والمعنى أنا أتبرأ مما تعبدون إلا من الله عزّ وجلّ ويجوز أن يكون إلا بمعنى لكن فيكون المعنى لكن الذي فطرني فإنه سيهدين أي سيرشدني لدينه ويوفقني لطاعته
واعلم أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام في آية أخرى أنه قال الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ ( الشعراء ٧٨ ) وحكى عنه ههنا أنه قال سَيَهْدِينِ فأجمع بينهما وقدر كأنه قال فهو يهدين وسيهدين فيدلان على استمرار الهداية في الحال والاستقبال وَجَعَلَهَا أي وجعل إبراهيم كلمة التوحيد التي تكلم بها وهي قوله إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ جارياً مجرى لا إله وقوله إِلاَّ الَّذِى فَطَرَنِى جارياً مجرى قوله إلا الله فكان مجموع قوله إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِى فَطَرَنِى جارياً مجرى قوله لا إله إلا الله ثم بيّن تعالى أن إبراهيم جعل هذه الكلمة باقية في عقبه أي في ذريته فلا يزال فيهم من يوحد الله ويدعو إلى توحيده لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحد منهم وقيل وجعلها الله وقرىء كلمة على التخفيف وفي عقيبه
ثم قال تعالى بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاَء وَءابَاءهُمْ يعني أهل مكة وهم عقب إبراهيم بالمد في العمر والنعمة فاغتروا بالمهلة واشتغلوا بالتنعم واتباع الشهوات وطاعة الشيطان عن كلمة التوحيد حَتَّى جَاءهُمُ الْحَقُّ وهو القرآن وَرَسُولٌ مُّبِينٌ بين الرسالة وأوضحها بما معه من الآيات والبينات فكذبوا به وسموه ساحراً وما جاء به سحراً وكفروا به ووجه النظم أنهم لما عولوا على تقليد الآباء ولم يتفكروا في الحجة اغتروا بطول الإمهال وإمتاع الله إياهم بنعيم الدينا فأعرضوا عن الحق قال صاحب ( الكشاف ) إن قيل ما وجه قراءة من قرأ متعت بفتح التاء قلنا كأن الله سبحانه اعترض على ذاته في قوله وَجَعَلَهَا كَلِمَة ً بَاقِيَة ً فِى عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فقال بل متعتهم بما متعتهم به من طول العمر والسعة في الرزق حتى شغلهم ذلك عن كلمة التوحيد وأراد بذلك المبالغة في تعييرهم لأنه إذا متعهم بزيادة النعم وجب عليهم أن يجعلوا ذلك سبباً في زيادة الشكر والثبات على التوحيد لا أن يشركوا به ويجعلوا له أنداداً فمثاله أن يشكو الرجل إساءة من أحسن إليه ثم يقبل على نفسه فيقول أنت السبب في ذلك بمعروفك وإحسانك إليه وغرضه بهذا الكلام توبيخ المسيء لا تقبيح فعل نفسه
وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَاذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَة َ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَة ُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ


الصفحة التالية
Icon