والقسم الثالث فهو جلوسهم على صفة التقابل والغرض منه استئناس البعض بالبعض فإن قاوا الجلوس على هذا الوجه موحش لأنه يكون كل واحد منهم مطلعاً على ما يفعله الآخر وأيضاً فالذي يقل ثوابه إذا اطلع على حال من يكثر ثوابه يتنغص عيشه قلنا أحوال الآخرة بخلاف أحوال الدنيا
والقسم الرابع أزواجهم فقال كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ الكاف فيه وجهان أن تكون مرفوعة والتقدير الأمر كذلك أو منصوبة والتقدير آتيناهم مثل ذلك قال أبو عبيدة جعلناهم أزواجاً كما يزوج البعل بالبعل أي جلعناهم اثنين اثنين واختلفوا في أن هذا اللفظ هل يدل على حصول عقد التزويج أم لا قال يونس قوله وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ أي قرناهم بهن فليس من عقد التزويج والعرب لا تقول تزوجت بها وإنما تقول تزوجتها قال الواحدي رحمه لله والتنزيل يدل على ما قال يونس وذلك قوله فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا ( الأحزاب ٣٧ ) ولو كان المراد تزوجت بها زوجناك بها وأيضاً فقول القائل زوجته به معناه أنه كان فرداً فزوجته بآخر كما يقال شفعته بآخر وأما الحور فقال الواحدي أصل الحور بياض والتحوير التبييض وقد ذكرنا ذلك في تفسير الحوارين وعين حوراء إذا اشتد بياض بياضها واشتد سواد سوادها ولا تسمى المرأة حوراء حتى يكون حور عينهيا بياضاً في لون الجسد والدليل على أن المراد بالحور في هذه الآية البيض قراءة ابن مسعود بعيس عين والعيس البيض وأما العين فجمع عيناء وهي التي تكون عظيمة العينين في النساء فقال الجبائي رجل أعين إذا كان ضخم العين واسعها والأنثى عيناء والجمع عين ثم اختلفوا في هؤلاء الحور العين فقال الحسن هن عجائزكم الدرد ينشئهن الله خلقاً آخر وقال أبو هريرة إنهن ليسوا من نساء الدنيا
والنوع الخامس من تنعمات أهل الجنة المأكول فقال يَدْعُونَ فِيهَا بِكلّ فَاكِهَة ٍ ءامِنِينَ قالوا إنهم يأكلون جميع أنواع الفاكهة لأجل أنهم آمنون من التخم والأمراض
ولما وصف الله تعالى أنواع ما هم فيه من الخيرات والراحات بين أن حياتهم دائمة فقال لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَة َ الاْولَى وفيه سؤالان
السؤال الأول أنهم ما ذاقوا الموتة الأولى في الجنة فكيف حسن هذا الاستثناء وأجيب عنه من وجوه الأول قال صاحب ( الكشاف ) أريد أن يقال لا يذوقون فيها الموت البتة فوضع قوله إِلاَّ الْمَوْتَة َ الاْولَى موضع ذلك لأن الموتة الماضية محال في المستقبل فهو من باب التعليق بالمحال كأنه قيل إن كانت الموتة الأولى يمكن ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها الثاني أن إلا بمعنى لكن والتقدير لا يذوقون فيها الموت لكن الموتة الأولى قد ذاقوها والثالث أن الجنة حقيقتها ابتهاج النفس وفرحها بمعرفة الله تعالى وبطاعته ومحبته وإذا كان الأمر كذلك فإن الإنسان الذي فاز بهذه السعادة فهو في الدنيا في الجنة وفي الآخرة أيضاً في الجنة وإذا كان لأمر كذلك فقد وقعت الموتة الأولى حين كان الإنسان في لجنة الحقيقية التي هي جنة المعرفة بالله ولمحبة فذكر هذا الاستثناء كالتنبيه على قولنا إن الجنة الحقيقية هي حصول هذه الحالة لا الدار التي هي دار الأكل والشرب ولهذا السبب قال عليه السلام ( أنبياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار ) والرابع أن من جرب شيئاً ووقف عليه صح أن يقال إنه ذاقه وإذا صح أن يسمى العلم بالذوق صح أن يسمى تذكره أيضاً بالذوق فقوله لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَة َ الاْولَى يعني إلا الذوق


الصفحة التالية
Icon